زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
لم أجد خير ما أبدأ به مقالي هذا إلا كلمات مضيئة لجلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه والتي تعود إلى عام 1994 والتي صور فيها خطورة جمود المسلمين في فكرهم خير تصوير مما أوصلهم إلى مؤخرة الركب في الميادين كافة ، وقبل أن أستشهد بتلك الكلمات المضيئات فإني أذكر أن جريدة الهدف الكويتية في تناولها لتلك الكلمات اختارت عنوانا جميلا هو ( كلام السلطان ، سلطان الكلام ) . كما قال لي زميلي المذيع السعودي إبراهيم الدمياطي الذي حضر الخطاب في مدينة نزوى إن جلالة السلطان المعظم قد تناول أزمة جمود فكر المسلمين في كلمات قليلة لكنها هامة وتامة وكافية وموفية . يقول جلالة السلطان المعظم : لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن بالحكمة والبيان وضمّنه المباديء العامة والقواعد الكلية للأحكام الشرعية ولم يتطرق فيه إلى جزئيات المسائل التي يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان ، وذلك ليتيح للمسلمين الاجتهاد في مجال المعرفة والفهم الديني واستنباط الأحكام لما يستجد من وقائع وفقا لبيئاتهم وللعصر الذي يعيشون فيه مع الالتزام الدقيق في هذا الاستنباط بتلك المباديء العامة والقواعد الكلية . وعندما انتشر الإسلام خلال العصور التالية للعهد النبوي ظهرت مسائل جديدة احتاج المسلمون إلى معرفة حكم الشرع فيها فماذا صنعوا ؟ لجأوا إلى الاجتهاد واستنبطوا الأحكام المناسبة وكان من نتيجة ذلك هذا التراث الفقهي الثري المتنوع الذي نفخر به اليوم ، لقد أثبتوا أن الشريعة قادرة على مواجهة مختلف الظروف في مختلف البيئات ، غير أن تخلف المسلمين في العصور المتأخرة جعلهم يتحجرون على موروثهم من الآراء الفقهية ولم يحاولوا التجديد في هذه الآراء وفقا للمباديء والقواعد التي قررها الشرع الحنيف كما لم يحاولوا استنباط أحكام شرعية مناسبة للمسائل التي استجدت في حياتهم
2
تذكرت هذه الكلمات مؤخرا ورجعت إليها وقد احتفظت بها في مجموعة أوراقي بعد أن تابعت سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة في برنامج لقاء اليوم في قناة الجزيرة يوم الثلاثاء الماضي 19/2/2008 حيث تناول سماحته العديد من المواضيع والنقاط المهمة رغم قصر اللقاء ، ولكنه كان لقاء فكريا جامعا إذ قال سماحته إن الإجتهاد ظاهرة صحية لهذه الأمة لأنها مطالبة بأن تكون أمة مجددة ومتجددة بحيث تأخذ بالجديد في تطوراتها وفي تتبع ما يجري في هذا العالم وبحيث تكون أمة قوية وعزيزة ومنيعة ذات دراية بما يجري في هذا العالم ، لأن الله سبحانه وتعالى يريد لهذه الأمة أن تكون أمة عالمية غير متقوقعة وإنما تنطلق في ميادين الحياة كلها ، ولهذا لا بد أن يكون هناك اجتهاد ، ولا بد لهذا الإجتهاد أن يستوعب أدواته وآلاته ومن أهمها أن يكون المجتهد مستوعبا لأمور شتى حتى يكون مهيأ للاجتهاد وعارفا بالقرآن الكريم وأن يكون ملما وعارفا بالعربية لغة القرآن الكريم ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك لا بد من أن يكون عنده علم أصول الفقه ، وأن يكون المجتهد على معرفة بأحوال الأمة لأنه قد تختلف الفتيا باختلاف المفتى له حسب الظروف ، لأن المفتي – كما يقول سماحة الشيخ – إنما هو كالطبيب الذي يداوي المريض فقد يكون علاج ما صالحا لمريض ولكن لا يصلح لمريض آخر وقد تكون جرعة من الدواء نافعة لمريض ولكن تلك الجرعة تقتل مريضا آخر، ويجب على المجتهد أن يجمع بين أدوات الاجتهاد حتى يكون قادرا على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ويكون متوقيا للوقوع في المزالق ، بحيث لا يأتي بقول يتصادم مع النصوص الشرعية . وعن واقع الاجتهاد بالنسبة للفقه الإباضي اليوم وكيف يراه سماحته قال إن أئمة الإباضية لم يغلقوا باب الاجتهاد في وقت من الأوقات فنحن نجد في جميع العصور من اجتهد في قضايا معينة واستنبط لها أحكاما ووجدنا أيضا من نظر في أقوال المتقدمين واجتهد فأتى بالجديد من الفتيا التي لم يسبق إليها من قبل ولربما رجح البعض قولا كان مهجورا فالفتيا عند الإباضية مبنية على الإجتهاد والنظر . وحول سؤال وجهه المذيع عبد الصمد ناصر لسماحة الشيخ أحمد الخليلي حول ما يراه البعض من أن دور العالم قد اضمحل وتراجع إلى حد أنه لم يعد له وجود تقريبا ، وأن هناك فئات من العلماء جعلت نفسها أداة في يد السلطة لتسويغ قراراتها قال سماحته إن العالم إنما يؤمر أن يعرف مقام علمه وقدر ما هو فيه بحيث تكون حركاته منضبطة مع مقتضيات علمه ، فإن حصل ذلك فلا ريب أنه يكون له أثر على مجتمعه ويكون له أثر على أمته ، هذه الأمة عندما ترى العالم ذا مصداقية في حديثه لا ينهي شيئا ويأتيه ، ولا يأمر بشيء ويدعه وإنما يلتزم ما يأمر به ويزدجر عما ينهي عنه لا بد أن يكون لهذا العالم تأثير في أمته وفي مجتمعه ولا نقول إنه تقلص دوره ، ويجب على العالم أن يعرف مقامه إنما العلماء ورثة الأنبياء ، والأنبياء جاؤوا لإرشاد الناس ، فيجب على العالم أن يكون قائدا للحق لا منقادا إلى الباطل وأن يكون مؤثرا بالهدى لا متأثرا بالضلال وأن يكون هو ثقة على مستوى الجميع لا استعلاء واستكبارا ولكن لإنزال العلم منزلته ولمعرفة ما أودعه الله سبحانه وتعالى من رسالته التي يجب عليه أن يبلغها للناس وأن لا يبالي في تبليغها
3
وعودة إلى البدء فإن جلالة السلطان المعظم قد قال في خطابه السامي ذلك إن المسلمين ارتضوا لأنفسهم الجمود وأقل ما يقال عن هذا الجمود أنه لا يتمشى مع طبيعة الإسلام الذي يدعو إلى التطور الفكري ومواجهة تحديات كل عصر وكل بيئة بما يناسبها من الحلول المنطقية الصحيحة باستخدام قواعد استنباط الأحكام خدمة للمجتمع الإسلامي ، وإنه لمن المؤسف حقا – والقول لجلالته – أن هذا الجمود الذي أدى إلى ضعف الأمة الإسلامية بخمود الحركة العقلية والنشاط الفكري فيها ، قد أفرز في السنوات الأخيرة نوعا من التطرف مرجعه عدم معرفة الشباب المسلم بحقائق دينه معرفة صحيحة وافية ، وكان من شأن ذلك أن استغله البعض في ارتكاب أعمال العنف وفي ترويج قضايا الخلاف التي لا تؤدي إثارتها إلا إلى الفرقة والشقاق والضغينة . إن غياب شروط الإجتهاد كما أوضحها سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في قناة الجزيرة ، أدى إلى انتشار فوضى الفتاوى في الأمة ، وأصبحت الفتوى بضاعة رخيصة يصدرها من لا تتوافر فيهم شروطها ، وأصبح هناك نجوم الفتاوى في الفضائيات ، ينافسون المطربين والمطربات ولاعبي كرة القدم والمذيعين في النجومية ، وأصبح هناك فتاوى في الأمة تفصّل حسب الطلب ، وغاب المعنى الحقيقي للإجتهاد بحيث صارت الفتاوى تتصادم مع النصوص الشرعية ، بل صارت الفتاوى تتصادم مع العقل والفطرة السليمة والسليقة ، وليس أدل على ذلك من الفتاوى التي ظهرت بشدة في الثمانينيات من القرن الماضي وكلها كانت تدعو الشباب إلى الجهاد الإسلامي في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي الشيوعي هناك ، تنفيذا لمخطط زبيجنيو بريجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي حينها جيمي كارتر بمحاصرة الإتحاد السوفييتي ، وانتشرت كتب وأشرطة وفتاوى كلها تنادي الشباب المسلم وتحثه على الجهاد في أفغانستان ، مما نتج عن ذلك مشكلة الأفغان العرب الذين ما إن أدوا المطلوب منهم أمريكيا حتى رفضتهم دولهم التي سخرت إعلامها ومساجدها وخطباءها لحث هؤلاء الشباب على الجهاد ، ونتج عن ذلك معسكر جوانتانامو فإذا نفس الشيوخ الذين أصدروا فتاوى الجهاد يصدرون فتاوى أخرى مناهضة تتهم هؤلاء الشباب بأنهم كفرة وخوارج العصر ومرتدين . وقد سمى زبيجنيو بريجنسكي هؤلاء الشباب بالمجاهدين بينما وصفهم الأستاذ فهمي هويدي بجند الله في المعركة الغلط ، وهو الأصدق طبعا . ومن المفارقات العجيبة أن ساحة الجهاد الحقيقية هي فلسطين حتى تقوم الساعة ، لكن المخطط الأمريكي كان يستهدف الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة بينهما فانطلت الحيلة على المشايخ ، فإذا الأيام تدور دورتها وتقوم حرب ضروس بين عدو الأمة الحقيقي إسرائيل وبين حزب الله ، فإذا بنفس الشيوخ يصدرون فتاوى تحرم حتى الدعاء لحزب الله بحجة أنهم ( كفرة ) ، تحت دعاوى مذهبية التي أشار إليها جلالة السلطان المعظم بأن هناك من استغل ذلك الجمود في ترويج قضايا الخلاف التي لا تؤدي إثارتها إلا إلى الفرقة والشقاق والضغينة . كما جاءت بعض الفتاوى تحرم العمليات الإستشهادية ضد الإسرائيليين في وقت غض هؤلاء المفتيون الطرف عن قتل الفلسطينيين يوميا بالطائرات والقنابل العنقودية والإنشطارية والإغتيالات والتجويع ، ومن هذه المفارقات المؤلمة أيضا أني أحتفظ بالكثير من افتتاحيات الصحافة الإسرائيلية ، وهي تحتفي بفتاوى تحريم العمليات الإستشهادية ضد الإسرائيليين . وقد أثارت كثير من الفتاوى البلبلة في عقول الناس ، كفتوى تبرك الصحابة بشرب بول النبي صلى الله عليه وسلم ، وفتوى رضاع الكبير ، وفتوى إجازة التدخين للصائم نهار رمضان . وقد بدأت السلطات المصرية خلال الشهر الحالي في اتخاذ إجراءات من شأنها الحد مما يعرف إعلاميا بفوضى الفتاوى بعد قيام علماء دين بإصدار سلسلة من الفتاوى التي أثارت ضجة إعلامية واسعة ، وأعلن الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس لجنة الشؤون الدينية في مجلس الشعب المصري عن إحالة جميع فتاوى دار الإفتاء التي صدرت أخيرا إلى مجمع البحوث الإسلامية لإبداء الرأي بشأن صحتها وقال إن التصديق على هذه الفتاوى سيدحض البلبلة التي شاعت داخل المجتمع المصري في الفترة الأخيرة . ومن أجمل ما قرأت ما كتبته هويدا طه – فك الله أسرها – في جريدة القدس العربي عدد السبت 15/12/2001 حيث تحدثت عن علماء السلطة إذ قالت إن هؤلاء ليسوا الممثلين للإسلام وليس لزاما علينا أن نمتثل لهم ، فالعقل الذي أعلى القرآن شأنه يرفض سطوتهم علينا ويرفض تبعية فتاواهم للسلطة ، وإذ طالبنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نستفتي قلوبنا ، فإن قلوبنا وعقولنا ترفض بصراحة الخضوع لإسرائيل وأمريكا وأتباعهما من رجال الحكم إلى المشايخ وحتى رجال المال والأعمال ! والرفض يتبعه تصدي ومقاومة وهو ما يجري الآن حتى وإن كان على استحياء . ولكي لا يتخلف المسلمون ويتقدم غيرهم - وهو الحاصل الآن - فإن جلالة السلطان المعظم يقول : إن المسلمين مطالبون شرعا بمواكبة العصر بفكر إسلامي متجدد متطور قائم على اجتهاد عصري ملتزم بمباديء الدين ، قادر على أن يقدم الحل الصحيح المناسب لمشاكل العصر التي تؤرق المجتمعات الإسلامية وأن يظهر للعالم أجمع حقيقة الإسلام وجوهر شريعته الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان ، وإن التزمت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين وشيوع العنف وعدم التسامح في مجتمعاتهم ، وهو في حقيقة الأمر بعيد عن فكر الإسلام الذي يرفض الغلو وينهى عن التشدد لأنه دين يسر ويحب اليسر في كل الأمور
4
لقد كان فرحي مضاعفا عندما شاهدت سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة في قناة الجزيرة ، فقد دعوت إلى ذلك في مقال لي سابق بعنوان عين على الديمقراطية والطيور المهاجرة ، وقد قرأ سماحته المقال واليوم أدعو نفس الأخ الذي أعطى سماحته المقال السابق أن يعطيه هذا المقال ، وعبر جريدة الشبيبة أدعو أن ينظر سماحته في تغيير فكرة برنامج سؤال أهل الذكر ، لأن هناك الكثيرون في مكتب الإفتاء بإمكانهم أن يردوا على أسئلة الحيض والنفاس وسنة تحية المسجد ، وهي أغلب أسئلة المتصلين ، وعلى سماحته والقائمين على البرنامج أن يهتموا بالقضايا الفكرية وقضايا العقيدة وأعّول على مكانة سماحة الشيخ العلمية فيجب أن يستفاد منه ومن علمه ، كأن يكون هناك برنامج فكري آخر يتناول قضايا فكرية عصرية ، ويجب على سماحته أن يتواصل مع الناس ويستغل كل فرصة سانحة ، ثم أليست فترة طويلة جدا أن يستغرق تفسير الفاتحة والبقرة وآل عمران أكثر من عشرين عاما ؟! . ومن الأشياء الجميلة في نفس يوم ظهور سماحة المفتي في قناة الجزيرة ، أن تظهر الفاضلة مريم بيت عيسى الزدجالية رئيسة تحرير اليوم السابع ورئيسة جمعية العطاء في برنامج المرأة الخليجية في قناة دبي الفضائية حول جريدة اليوم السابع منذ ميلاد الفكرة إلى أن تجسدت جريدة لها قراؤها ، وتكلمت عن جمعية العطاء وعن الهدف من إنشائها ونشاطاتها . فكان في ذلك اليوم ظهوران عمانيان في قناتين فضائيتين وهو شيء جيد
منقولة من جريدة الشبيبة العمانية
No comments:
Post a Comment