كاتب عماني
1
لا بد أن أعترف من البداية بأن موضوع مقالي هذا موضوع مؤلم للجانبين العربي والصيني معا فازدهار العلاقات بين الصين وإسرائيل جاء على حساب العلاقات الصينية العربية أولا ثم جاء على حساب المبادىء التي آمنت بها الصين الشعبية منذ تأسيسها وهي الوقوف مع الحق ومع الجانب العربي في كل المحافل وأخيرا وهذا ما يؤلم أكثر أن ازدهار العلاقة الصينية الإسرائيلية جاء لضعف العرب ولغياب استراتيجية واضحة المعالم لديهم ولغياب التخطيط السليم وعدم استشراف المستقبل ولغياب تأثيرهم على العالم فلم يكن أمام الصين إلا أن تنظر لمصالحها فقط لأن لغة المصالح هي اللغة المعتمدة في السياسة وليست لغة العواطف والشعارات ، والصين في ذلك ليست بدعا من الدول فكثير من دول العالم الصديقة للعرب اتجهت اتجاها معاكسا وأقامت علاقات استراتيجية مع إسرائيل على حساب العرب بعد أن دخل العرب أنفسهم في علاقات مباشرة مع إسرائيل مما شجع أطرافا دولية عديدة كانت متحفظة تقليديا حيال العلاقات مع إسرائيل على تجاوز هذه التحفظات والدخول في علاقات مباشرة معها ومن هذه الدول مثلا إسبانيا والدول الإسلامية في شرق آسيا والهند وهي قوة قادمة ويحسب لها ألف حساب الآن وحجة كل من يقيم علاقات مع إسرائيل تكاد تكون واحدة وهي لماذا لا نقيم علاقات مع إسرائيل إذا كان العرب أنفسهم يقيمون علاقات واتصالات معها مثل مصر التي قادت الحروب ضد إسرائيل ومثل الفلسطينيين أنفسهم وهم أصحاب القضية ؟! ثم إن هناك فائدة مرجوة من إقامة علاقات مع إسرائيل بينما العرب لا يملكون إلا النفط وهو مضمون وهي حجة مقبولة سياسيا "
2
لقد كانت هناك اتصالات سرية إسرائيلية صينية عن طريق رجال الأعمال لكن الإشارة الرسمية الأولى لعزم الصين إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل جاءت في شتاء عام 1991 عندما قام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رحمه الله بزيارة رسمية للصين وعقد اجتماعا مع لي بنج رئيس مجلس الدولة الصيني آنذاك حيث مهد للرئيس عرفات بأن تحدث عن التغيرات الأخيرة التي طرأت على الأوضاع الدولية والوطنية وعزم الصين إقامة علاقات مع بعض الدول بما فيها كوريا الجنوبية وإسرائيل وأكد له على ثبات الموقف الصيني في مواصلة الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله العادل إلى آخر تلك الكلمات التي نسمعها عبر وسائل الإعلام المختلفة وقال لي بنج للرئيس ياسر عرفات – كما روى ذلك فيما بعد السفير الفلسطيني في الصين مصطفى السفاريني في كتابه بعنوان (أيامي في الصين – تجربة حية لمبعوث دبلوماسي) إن إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإسرائيل تمكّن الصين من لعب دور أكبر وأعظم في دعم نضال الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوق الدول النامية وإن إقامة علاقات دبلوماسية بين الصين وإسرائيل سيخدم احلال سلام عادل وشامل ودائم في منطقة الشرق الأوسط .! (وطبعا هذا الكلام كله لم يحصل) وبالتأكيد فإن الرئيس ياسرعرفات ذهل مما سمع ولكنه في مسيرته الطويلة كان قد ألف تلقّي الصدمات . ولم تمض إلا فترة قصيرة جدا حتى أعلن في كل من تل أبيب وبكين عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين وذلك في 24/1/1992 وهي العلاقات التي ظلت تنمو وتشهد ازدهارا على مستويات عديدة مثل العلوم والتكنولوجيا والثقافة والزراعة وعلى المستوى التجاري والاقتصادي بل تخطت كل ذلك إلى التعاون في المجالات العسكرية إذ أن الصين استفادت من الخبرة الإسرائيلية في مجال التصنيع الحربي وبالذات في تكنولوجيا صناعة الطائرات ، حتى إن التليفزيون الصيني استضاف قبل فترة ضيفا إسرائيليا ضمن استعدادات الصين لاستضافة أولمبياد بكين ليتكلم عن الطريقة المثلى لمكافحة الإرهاب في الأولمبياد .! لقد أصبحت الصين الآن وللأسف الشديد تسوّي بين الجلاد والضحية إذ حدثنا نائب وزير الخارجية الصيني وأشار إلى أهمية أن يعيش الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي في سلام ، والسلام طبعا مطلب لكل شعوب العالم وهو حق لهم كلهم ولكن كيف يمكن أن نسوّي بين القاتل والمقتول وبين الغاصب والمغصوب وبين صاحب حق وصاحب باطل ؟! وكلام من هذا القبيل يجب ألا يسمع من حليف
3
الموقف الصيني الرسمي والتاريخي من إسرائيل ذكره رئيس وزراء الصين شواين لاي لمحمد حسنين هيكل ونشر هذا الكلام في جريدة الأهرام المصرية عام 1973 حيث قال نحن لم نعترف بإسرائيل ولم نجر معها أية اتصالات منذ قيامها بالرغم من أنهم حاولوا وبالرغم من أنهم صوتوا هذه المرة الأخيرة تأييدا لدخولنا إلى الأمم المتحدة ولقد حاول مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة مقابلة مندوبنا مرتين ولكنه رفض وهذا هو موقفنا . وأضاف الرئيس شواين لاي أنه عندما قامت إسرائيل وتقدمت لعضوية الأمم المتحدة لم نكن موجودين في الأمم المتحدة ولو كنا موجودين لاعترضنا على دخول إسرائيل ويرى شواين لاي أن إسرائيل دولة لم تصنعها أحكام الطبيعة ولكنها دولة صنعتها حماقة الإنسان ، صنعها البريطانيون بوعد بلفور ثم ساعدتها الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد السوفييتي إذ كان بإمكان الروس منع قرارات التقسيم ومنع دخول إسرائيل إلى الأمم المتحدة ، وقال شواين لاي إن الأمم المتحدة ليست لها حسنات كثيرة وإن قيام إسرائيل أكبر سيئاتها .! بل إن الرئيس شواين لاي قال لهيكل لا بد أن تتحركوا لمطاردة إسرائيل في أفريقيا ، لكن الذي حصل هو عكس ذلك تماما حيث ذكر إفرايم هالفي المدير السابق للموساد في كتابه (رجل في الظلال) أن إسرائيل لعبت دورا فاعلا جدا في تحقيق أهدافها المتمثلة في تقليص مناطق التأثير المصري في أفريقيا وأفسدت الجهود التي بذلها الرئيس جمال عبد الناصر لعزل إسرائيل على الصعيد الدولي وتطبيق مقاطعة شاملة لها . ولكن لماذا تغير الموقف الصيني ؟ وأين العرب من كل ذلك ؟ وما هو حجم العلاقات الصينية الإسرائيلية ؟
4
تقيم إسرائيل الآن علاقات استراتيجية مع الصين وهذه العلاقة لم تكن وليدة صدفة بل كانت بعد دراسات مستفيضة وطلبات كثيرة من الجانب الإسرائيلي حيث بدأت الصين في التحول منذ أن طبقت سياسة الاصلاح والانفتاح على العالم الخارجي وأخذت تبحث عن مصالحها الوطنية وتخلت عن عدائها التاريخي لإسرائيل واتخذت مواقف قيل عنها معتدلة ومرنة إزاء العديد من المشكلات الدولية بصفة عامة والصراع العربي الإسرائيلي بصفة خاصة وقد ساعدها على ذلك تحسن العلاقات بين أمريكا والصين بعد زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للصين عام 1972 وأصبح المجال العسكري والصفقات العسكرية هما القاعدة الصلبة التي اعتمدت عليها العلاقات بين الصين وإسرائيل واعتبر التعاون بين الجانبين في تطوير نظام طائرة فالكون للسيطرة وإنتاج الطائرة المقاتلة f10 من أهم مشروعات التعاون العسكري بينهما وعلى الصعيد العلمي والثقافي وهو مجال مهم جدا لإسرائيل وللصين أيضا فقد وقعت الدولتان اتفاقية رسمية للتعاون بين أكاديميات العلوم فيهما كما تم افتتاح كلية لتعليم اللغة العبرية والآداب والتاريخ والديانة اليهودية في جامعة بكين (كيف يمكن لدولة شيوعية تقوم على مبدأ عدم الإيمان بالأديان أن تدرس الديانة اليهودية في جامعاتها ؟) ، كما أن إسرائيل افتتحت مركزا أكاديميا لها في بكين وتمت ترجمة بعض الكتب الصينية إلى العبرية وهذا مجال خصب بل هو من أكبر مجالات التطبيع بين الشعوب بعيدا عن الرسميات (من المؤسف أن أحد مدرسي اللغة العربية العرب في الجامعات الصينية قال لي أثناء زيارتنا للصين إن هناك العديد من الشباب الصيني يدرسون اللغة العربية ويبرعون فيها ولكن اختيارهم للغة العربية هوعادة خيارهم الأخير ) إن إسرائيل تهدف من وراء إقامة هذه العلاقة الاستراتيجية مع الصين إلى تطويق العرب أولا وهم أصدقاء تقليديون للصين وتهدف من وراء ذلك تقييد تسليح الصين للدول العربية خاصة في المجال النووي والحيلولة دون مساعدة الصين في البرامج النووية للدول العربية والإسلامية مثل إيران وباكستان وسوريا ، ثم ترغب إسرائيل في الاستفادة السياسية من الصين التي أصبحت دولة عظمى رغم تواضع الصينيين وإنكارهم العلني لذلك لأن الإسرائيليين يدركون الدورالكبير الذي ستقوم به الصين في السياسة الدولية مستقبلا كما أن إسرائيل تهدف إلى الوصول إلى السوق الصينية الضخمة لتزويدها بالمنتجات الإسرائيلية مما سيقوي أولا الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني من مشاكل وثانيا سيوفر للصين فرصة الاستفادة من هذه المنتجات أما عن الاستفادة الصينية من هذه العلاقة فهي تتركز على استيراد بعض التقنية المتقدمة خاصة في مجالات التكنولوجيا والأسلحة والطائرات وهي متوافرة في الصناعات الحربية الإسرائيلية ، ومن خلال إسرائيل يمكن للصين أن تحصل على التقنية الأمريكية المتطورة وهو موضوع يقلق الأمريكيين بل هناك تعاون تجاري كبير وتعاون زراعي واسع وتبادل منافع في المجالات كافة وكل طرف يحاول أن يستفيد من الطرف الآخر بنفس الطريقة والأسلوب وتشهد الدولتان تبادل الزيارات على المستويات الرسمية العليا
5
في دراسة جميلة كتبها الأستاذ ذيب القرالة في قدس برس عن الصين وإسرائيل رصد فيها تطور العلاقات بين بكين وتل أبيب يقول إن الصين اتخذت سلسلة من المواقف في كافة المحافل الدولية لنصرة الحق العربي وأقامت علاقات مع جميع الدول العربية أسهمت في تدعيم عناصرالقوة في الموقف العربي وتحديدا في المجالات العسكرية والتقنية فأية خسارة لهذا الموقف سوف تنعكس سلبا على عناصر القوة العربية وقد تفاوتت تقديرات المحللين العرب لانعكاسات هذا التطور على الأمن القومي العربي إذ يرى البعض أن تطور العلاقات الصينية الإسرائيلية سيعزز من فرص إسرائيل في الهيمنة على المنطقة العربية حيث ستحتل مكانة دولة شبه عظمى وستصبح إسرائيل منافسة للصناعات العسكرية الأمريكية في تسويق الأسلحة إلى الصين وغيرها وهذا في رأيي أنه كلام وجيه جدا لأن الكل يحتاج إلى التكنولوجيا وإلى السلاح المتطور وهذا متوافر عند إسرائيل أما البعض فإنهم يقللون من هذا الاحتمال ويرون أن العلاقات الإسرائيلية الصينية لا تضرالعرب كثيرا إذا كرّسوا جهودهم لتنمية علاقاتهم القائمة والقديمة مع الصين والخطورة – كما يرون – تكمن في الفتور في العلاقة العربية - الصينية وأيضا أرى أن هذا الرأي وجيه لقد أصبحت العلاقة الصينية الإسرائيلية حقيقة ولا مجال لنكرانها أو تجاهلها فيجب على العرب أن يعملوا على تطويرالعلاقات العربية الصينية وهناك العديد من المجالات التي يمكن أن تقوي هذه العلاقات فالعرب هم الشريك الاقتصادي الثامن للصين حسب تقديرات العام الماضي ويمكن جدا أن يتقدموا إلى مرتبة أفضل من تلك فالمصالح العربية الصينية أكثر من المصالح الإسرائيلية الصينية لكن ذلك يحتاج إلى رؤية ويحتاج إلى عزيمة وإخلاص ويحتاج إلى قراءة المستقبل قراءة صحيحة لأن العرب الآن – بل ودائما - لا يمكن لهم أن يركنوا إلى حليف عدوهم الأساسي وهو الولايات المتحدة الأمريكية فهم بحاجة إلى حليف قوي يحل محل الإتحاد السوفييتي السابق الذي حاربناه لحساب الولايات المتحدة الأمريكية وكنا مجرد أدوات في الحرب الباردة ، حاربناه تارة بطرد الخبراء السوفييت وتارة أخرى بانتقاد الأسلحة السوفييتية التي حاربنا بها وتارة تحت ستار محاربة الشيوعية ضمن نادي السفاري الذي أسسه زبجنيو بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي . وبالتأكيد فإن الصينيين يدركون جيدا مصير العلاقات السوفييتية العربية وفي بالهم ذلك المصير
No comments:
Post a Comment