زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
لقد كان الدبلوماسي والكاتب الفلسطيني عدلي صادق من أوائل الذين تنبهوا إلى الأخطار التي تهدد عروبة الخليج عندما كتب مقالا جميلا في جريدة القدس العربي منذ سنوات طويلة اختار له عنوانا مثيرا هو ( كبير جنجال .. اثنين شعبية ) قال فيه إنه ركب سيارة أجرة في إحدى الدول الخليجية وتصادف أن سائقها كان أفغانيا ، وبحسه الدبلوماسي والصحفي ناقش السائق عن الأوضاع في أفغانستان وطال الحديث بينهما حتى سأله السائق : أنت من أين ؟ قال له : أنا من فلسطين . فقال له السائق: منذ سنوات طويلة وأنتم عملتم كبير جنجال فماذا حصلتم ؟ لقد حصلتم على اثنين شعبية بس ! والمراد بهذا الكلام أن الفلسطينيين حاربوا طويلا فكانت النتيجة أن حصلوا على غزة وأريحا واللتين تشبهان في صغرهما منزلين شعبيين فقط ، و(الجنجال) تعني (مشكلة).
وإذا كان عدلي صادق يشير إلى جانب واحد من المشكلة إلا أن ما تم تناقله عبر رسائل الهواتف النقالة في دبي من نكات ، يشير إلى جانب آخر إذ تقول رسالة تحت عنوان (بلاغ هروب عامل عام 2020 في دبي) : يعلن الكفيل المواطن ( لال كريشنا ) عن هروب العامل بطي بن راشد بن مهير منذ عام وعلى من يجده أن يسلمه لمركز شرطة غاندي بديرة ، شارع ( أميتا باتشا ) بني ياس سابقا .
إذن فالمنطقة أمام تحديات كبيرة فهي مهددة في عروبتها ودينها وثقافتها ومهددة بخلل في تركيبتها السكانية وهذا بالتالي يؤدي إلى تهديد أمنها حاضرا ومستقبلا مما يجعل المنطقة وكأنها فوق بركان ينتظر اللحظة المناسبة لينفجر ويثور .
2
هناك أسباب عديدة لتفاقم الخلل السكاني في المنطقة وفي مقدمة هذه الأسباب وجود الثروة النفطية التي كانت السبب الرئيسي لاستقدام القوى العاملة من الخارج خاصة مع طفرة ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات من القرن الماضي وبالذات بعد حرب أكتوبر 1973 .
ولكن هناك أسبابا أخرى حديثة ، من أهمها تطبيق سياسة بيع الحكومات للأراضي العامة لمستثمرين أجانب ، وإنشاء تجمعات سكنية سياحية على الشواطئ تباع للأجانب ولا يستطيع المواطنون الاقتراب منها وإن اقتربوا سيكونون مجرد خدم فيها ، وتشجيع المستثمرين الأجانب على الاستثمار وتسهيل الإقامة الدائمة لملاك الأحياء السكنية الفاخرة في معظم المناطق الجديدة لغير المواطنين وهي الأحياء التي بدأت تبرز على الشواطئ الخليجية من الكويت شمالا إلى السلطنة جنوبا في وقت متقارب ، وهذا من جانبه أدى إلى رفع الحواجز عن استقدام القوى العاملة الأجنبية اللازمة لبناء هذه المدن والمناطق العقارية الجديدة دون مراعاة لأبعاد وتداعيات الخلل السكاني ومدى تأثيره على حاضر ومستقبل المنطقة .
وفي دراسة حديثة أعدها د. علي خليفة الكواري من ضمن دراساته العديدة حول خلل التركيبة السكانية يقول : إن المعلومات المتاحة تذكر أرقاما فلكية يصعب قراءتها وتخيلها حول حجم الاستثمار العقاري المتوقع في دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الحاضر والذي بلغ تريليونين دولار منها 700 مليار دولار في دولة الإمارات العربية المتحدة وحدها ، وهذا الحجم من الاستثمار العقاري سيتطلب قوى عاملة كثيفة في مرحلة الإنشاء كما سيتطلب إقامة وافدين جدد يشغلون هذه العقارات ويشغّلونها.
ويرى د. علي خليفة الكواري في دراسته أن تفاقم الخلل السكاني حصل بشكل مفاجئ في دول تملك فوائض نفطية مثل دولة قطر وإمارة أبوظبي وأخرى ليس لديها صادرات معتبرة من النفط الخام مثل البحرين وبقية الإمارات ، وهذا – كما يرى الدكتور الكواري – يؤكد غياب إستراتيجية واحدة معنية بقضية الخلل السكاني و باعتبارات التنمية المستدامة تم تطبيقها في الدول الثلاث – موضع الدراسة - بناء على استشارات وخطط وضعتها شركات ومعاهد أجنبية نظرت إلى هذه البلاد كمشروعات تجارية فقط وليس كدول وطنية عليها واجب بناء الدولة وتأهيل المواطن وتفعيل دور المجتمع وتحقيق التماسك الاجتماعي من خلال عملية تنمية وطنية مستدامة ذات بعد إنساني تكون لصالح أهل المنطقة بأجيالهم المتعاقبة ويكون دور المواطنين هو الدور الرئيسي في قيادتها وتحديد خياراتها ، فالتنمية الحميدة هي التي تستهدف صالح المواطنين بالدرجة الأولى وأن يكون المواطنون هم عمادها وما عداها فإنها تنمية ضياع والعياذ بالله.
وأنا أكتب هذه المقالة اطلعت على كثير من الدراسات والأبحاث والمقالات التي تناولت مشكلة خلل التركيبة السكانية في المنطقة والمخاطر التي تحدق بعروبة وهوية الخليج ، وكانت معظمها تركز على الأرقام والإحصائيات وهي متاحة لكل من يريد أن يبحث في هذا الموضوع لكن يبقى أن د. علي خليفة الكواري – وهو المهتم في قضايا الخليج والتحديات التي تواجه أبناءه – تناول لب المشكلة عندما أشار إلى غياب إستراتيجية معنية بقضية الخلل السكاني في المنطقة بل وصل به الأمر إلى المطالبة بإبعاد المسؤولين عن تفاقم الخلل السكاني عن مراكز اتخاذ القرارات واستبدالهم بمن يرتبط مصيرهم بمصير الوطن وهي إشارة من الدكتور إلى أن تغليب مصلحة الوطن والمواطنين أهم من تغليب المصلحة الشخصية من تحقيق ثروة سريعة على حساب الوطن ومستقبله ومستقبل أجياله فالوطن ملك للجميع وملك للأجيال المقبلة ومن حق هذه الأجيال أن تنعم بالأمن والاستقرار وتعيش في رفاهية طالما أن أسبابها متاحة وإلا فما معنى أن تبنى الأبراج الشاهقة والمتنزهات والشواطئ والمدن ولا يستطيع المواطن أن يقترب منها ؟!
لقد بدأت الأصوات هنا وهناك تهتم بمشكلة الخلل السكاني في المنطقة ، ولعل أبرز ما تناول هذا الموضوع مؤتمر الهوية الوطنية الذي عقد في أبوظبي في شهر إبريل الماضي ومنتدى حوار المنامة الذي عقد في شهر سبتمبر الماضي ، ولكن مع ذلك فإن الواقع على الأرض يبدو وكأنه غير معني بهذا الخلل وأن القرارات غير معنية بحقوق المواطن والحفاظ على لغته وهويته ووجوده لأن خيار التوسع غير العقلاني في نشاط العقارات غير المبرر هو أهم خيارات ما يسمى بتنمية ضياع الأوطان ونكوص المجتمعات الوطنية وتهديد مستقبل الأجيال المتعاقبة .
عندما يصبح المواطنون أقلية في وطنهم ويهمش دورهم الثقافي والإنتاجي والإداري وتصبح أوضاعهم المعيشية رهينة المكرمات والقرارات الإدارية فقط ، ويعيشون في فقر وتسول بينما القصور والأبراج والشواطئ والسيارات الفارهة والخيرات تذهب لمستثمرين أجانب لا تجني الدولة ولا المواطنون منها شيئا باستثناء دفع فواتير الكهرباء والماء إذا لم يحصلوا على الإعفاء ، ومع ذلك وللأسف هناك بعض الأصوات تنبعث من هنا وهناك تحاول أن تثير العرب الآخرين على أبناء الخليج وكأنهم يأكلون في صحون وملاعق من ذهب وهذه ليست حقيقة أبدا ، ويتزعم هذا الفريق كاتب كبير مثل عبد الباري عطوان ، وهو كاتبي المفضل ولكنه لا يفرق دائما بين الأنظمة وبين المواطنين العاديين الذين يكتوون بالنار.
3
لقد شهد العام الماضي 2008 أحداثا لها دلالتها الخطيرة على الأمن الداخلي لدول مجلس التعاون الخليجي حيث شهد شهر فبراير من ذلك العام مظاهرات وإضرابات عنيفة في دبي لعمال هنود أحدثت أضرارا بليغة بالممتلكات العامة والخاصة كما شهد الشهر نفسه تظاهرات وإضرابات لعمال هنود في مملكة البحرين ، وفي شهر يوليو الماضي اعتقلت السلطات الأمنية في أبوظبي آلاف العمال الهنود الذين يعملون في شركة مقاولات كبيرة لارتكابهم العصيان والتمرد المخل بالأمن العام ، وفي الكويت قام عمال بنجلادشيون بإضرابات قالت عنها وسائل الإعلام إنها ثورة عمالية بنغالية اجتاحت الكويت ، الأمر الذي استدعى قوى الأمن ومكافحة الشغب للتدخل واستخدام جميع الأسلحة ، ومن ثم تم تسفيرهم إلى بلادهم وهناك استقبلوا استقبال الأبطال الفاتحين .
وهذا يعطي مؤشرا خطيرا على الوضع الضعيف والهش في هذه الدول وعلى خطورة هذه القوى العاملة على الأمن الداخلي ، فماذا لو اجمعت هذه القوى العاملة على العصيان في يوم واحد فقط .ألا يشكل ذلك خطرا وانهيارا كاملا للدولة وإفلاسا اقتصاديا لا يمكن تعويضه كما تساءل حول الدكتور محمد صالح المسفر ؟! ثم هل تستطيع القوة أن تفرض النظام إذا انتشرت الفوضى ؟!
إن هذه القوى العاملة الأجنبية تهيمن على هيكل وتركيبة سوق القوى العاملة الخليجية خصوصا لدى مؤسسات وشركات القطاع الخاص ، وتستحوذ القوى العاملة الوافدة على حوالي 70% من فرص العمل في دول مجلس التعاون كما أشارت إلى ذلك دراسة لاتحاد غرف مجلس التعاون الخليجي .
وأمام هذه الإضرابات والعصيان العمالي ألا يحق لنا أن نتساءل : هل كانت هذه الإضرابات عفوية وليس وراءها جهة مّا ؟! ولماذا جاءت كلها متقاربة ؟! وما دور الولايات المتحدة (شرطي العالم) في توزيع الاتهامات جزافا بالاتجار بالبشر في هذه المشكلة ؟! .
وهناك خطورة أخرى أشارت إليها الدراسة وهي استنزاف المال العام الذي يمكن له في حال بقائه في البلد أن يكون رافدا قويا من روافد التنمية ، حيث تشير الدراسة إلى أن حجم تحويلات الأجانب من دول الخليج بلغ خلال عام 2006 48 مليار دولار كان نصيب السعودية منها 63% وهو بالتأكيد مبلغ كبير في وقت نجد فيه من المواطنين الخليجيين من يرفع يده متسولا ومن يبحث عن تبرعات للعلاج وغير ذلك !
4
لقد كان الفريق ضاحي خلفان القائد العام لشرطة دبي صريحا عندما أبدى مخاوفه في ملتقى الهوية الوطنية في أبوظبي عندما تساءل عما إذا كان هندي سيترشح للرئاسة في دولة الإمارات العربية المتحدة في المستقبل القريب مثلما حصل في أمريكا مع أوباما !!.
كما كان مجيد العلوي وزير العمل البحريني صريحا أيضا عندما رد على المندوب الهندي في جلسة النقاش المغلقة الثانية في منتدى حوار المنامة والذي طالب بإعطاء حقوق سياسية للقوى العاملة الهندية في المنطقة ، عندما تصدى العلوي للمطالب الهندية وأكد على أهمية حماية الهوية الثقافية لدول الخليج العربي وعدم السماح بسيطرة القوى العاملة الأجنبية على الواقع العمالي في دول الخليج لأن الهند في ذلك المنتدى رفضت فكرة تحديد بقاء العامل الأجنبي في الخليج لمدة 5 سنوات فقط وتمسكت بأن يتم وصف القوى العاملة الهندية بالمهاجرة لا الوافدة وهو ما يمهد لها الحصول على حقوق المهاجرين في مختلف بلدان العالم وهذه دعوة خطيرة لها أبعادها المستقبلية على دول المنطقة وهناك أمثلة تاريخية على خطورة دعوة كهذه .
كما كتب ذلك د. محمد السيد سليم في جريدة العربي الناصرية ، فما بين عامي 1879 و1916 استقدمت السلطة البريطانية حوالي 60 ألف عامل هندي للعمل في مزارع قصب السكر في المستعمرة البريطانية السابقة (فيجي) التي تقع في المحيط الهادي على أساس بقاء العامل لمدة 5 سنوات مدت بعدها إلى 5 سنوات أخرى ولكن القوى العاملة الهندية استمرت في الإقامة وحصلت على جنسية (فيجي) فدخلت القوى العاملة الهندية المجنسة والتي أصبحت تشكل أكثر من نصف السكان السياسة الفيجية واستطاعت أن تهيمن على الحكومة في انتخابات عام 1987 مما أدى إلى اضطرابات عنصرية وقيام الجيش الفيجي بانقلاب عسكري وإعاد السلطة إلى أهل البلاد الأصليين مما اضطر الهنود إلى النزوح ، وفي سنة 1997 صدر دستور جديد لفيجي ضمن للهنود الحقوق السياسية الكاملة مما أدى إلى انتخابات 1999 وصل إلى الحكم فيها لأول مرة حزب العمل الفيجي برئاسة الهندي ( ماهندرا شودري ) ، مما أدى بدوره إلى انقلاب عسكري أدى إلى تعيين رئيس وزراء من أهل البلاد الأصليين ، وهذا بدوره أدى إلى نزوح الهنود عن فيجي من جديد حتى وصلوا إلى نسبة 38% بعد أن كانوا يشكلون أكثر من النصف.
5
أمام دول مجلس التعاون تحديات حقيقية يجب مواجهتها بصراحة وهذه الدول مطالبة بإعادة النظر في سياساتها الاستثمارية والتنموية حتى نبعد عن أنفسنا ذلك ( الجنجال الكبير) ونترك بناء أبراج ومدن لا نحتاج إليها ولن يستفيد منها المواطن أصلا لأن مصيره سيكون السكن فقط في ( الشعبيات ) التي أشار إليها عدلي صادق ، ولا نريد أن تتحول النكتة المتداولة عبر الهواتف النقالة إلى حقيقة ، وكذلك فإننا لا نريد أن نحوّل دول الخليج إلى جزر فيجي جديدة .
No comments:
Post a Comment