زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
عندما يتأمل الإنسان الوضع الذي تعيشه البشرية الآن ويحاول أن يقارنه بما وقع في السابق لا يملك إلا أن يقف احتراما وإجلالا للقرآن الكريم الذي نزل قبل أكثر من 1400 عام ، ولكن من يتدبر آياته يخيّل إليه كأنها نزلت توا أو تتكلم عما يحدث الآن ، وفي بالي بعض آيات سورة الحج وهي تتكلم عن دفاع الله للذين آمنوا ، الذين يقاتَلون ظلما ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق لأنهم وقفوا ضد الطغيان وقالوا ربنا الله . لقد تابعت ما يجري في غزة وتأملت هذه الآيات ولجأت إلى ظلال القرآن للشيخ الشهيد بإذن الله تعالى سيد قطب لعلي أجد ما يشفي الغليل .
2
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) } سورة الحج .
أذن الله للمسلمين في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين بعد أن بلغ أقصاه وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله ووعدهم الله النصر والتمكين على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بيّنها لهم فيما يلي من الآيات:
( إن الله يدافع عن الذين آمنوا , إن الله لا يحب كل خوان كفور , أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير, الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره , إن الله لقوي عزيز , الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور) .
إن المعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال ; والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان ، والشر جامح والباطل مسلح وهو يبطش غير متحرج ويضرب غير متورع فلا بد إذن للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم . ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل اعتمادا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر وعمق الخير في القلوب فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر ، وللصبر حد وللاحتمال أمد وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة إلا ريثما يستعدون للمقاومة ويتهيؤون للدفاع ويتمكنون من وسائل الجهاد ، وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) وأنه حكم لهم بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلومون غير معتدين ولا متبطرين ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وأن لهم أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم ( وإن الله على نصرهم لقدير) وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة لا يعود خيرها عليهم وحدهم .
إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها ; وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة وذلك فوق أنهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) وهي أصدق كلمة وأحق كلمة أن تقال ، ومن أجل هذه الكلمة وحدها كلمة كان إخراجهم ومحاربتهم ، فهو البغي المطلق الذي لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين وهو التجرد من كل هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم , إنما هي العقيدة وحدها من أجلها يخرجون لا الصراع على عرض من أعراض هذه الأرض التي تتشاجر فيها الأطماع وتتعارض فيها المصالح وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع ! ووراء هذا كله تلك القاعدة العامة وهي حاجة العقيدة إلى الدفع عنها (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) ، والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع .
والصلوات أماكن العبادة لليهود والمساجد أماكن العبادة للمسلمين ، وهي كلها معرضة للهدم - على قداستها وتخصيصها لعبادة الله - لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ويعتدون على أهلها ، فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول ، ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه , بل لا بد له من قوة تحميه وتدفع عنه وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان !
3
إن الله يأذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون واعتدى عليهم المبطلون بأن الله يدافع عن الذين آمنوا وأنه يكره المعتدين من الكفار الخائنين ، فقد ضمن للمؤمنين أنه يدافع عنهم ، ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه ظاهر حتما على عدوه ، ولكن الشيخ سيد قطب رحمه الله يتساءل إذن ففيما يأذن الله لهم بالقتال ؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد ؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح والجهد والمشقة والتضحية والآلام طالما أن العاقبة معروفة والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ولا تضحية ولا ألم ولا قتل ولا قتال ؟ وهذا التساؤل في محله وقد طرحه الكثيرون وهم يتابعون التضحيات التي قدمها أهل غزة والقتل الشنيع الذي تعرضوا له ولكن الجواب - كما يراه سيد قطب - أن حكمة الله في هذا هي العليا وأن لله الحجة البالغة والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا .
إن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من "التنابلة " الكسالى الذين يجلسون في استرخاء ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء ! نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة وأن يرتلوا القرآن وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ; إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة والذخيرة التي يدخرونها للموقعة , والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزودون عنه بسلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم أثناء المعركة والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها واحتشاد كل قواها كي يتم نموها ويكمل نضجها , وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها . والنصر السريع الذي لا يكلف عناء والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين يعطل تلك الطاقات عن الظهور لأنه لا يحفّزها ، وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة ولأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد طاقاتهم لكسبه فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد يبطئ فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله ، وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد , فلا تستبقي عزيزا ولا غالبا لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله . وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله . وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سندا إلا الله ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء ، وهذه الصلة كما يرى سيد قطب رحمه الله هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يأذن به الله ، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه أو تقاتل حمية لذاتها أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله بريئا من المشاعر الأخرى التي تلا بسه ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليُرى فأيها في سبيل الله فقال " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .
4
إننا نتكلم عن معركة غزة وعن التضحيات التي قدمها أهل غزة ونحن لم نعاني ما عانوه ولا نملك إلا الدعاء ، والدعاء في بعض الأحيان يكون نتيجة للعجز لأن تلك التضحيات تفوق كل الوصف إذ استخدم العدو الصهيوني كل الأسلحة للبطش بشعب أعزل بعد أن كشفت القناة العاشرة في التليفزيون الإسرائيلي أن جيش الحرب استخدم في عدوانه على قطاع غزة نصف قوة سلاحه الجوي وأنه نفذ ما لا يقل عن 2500 غارة ، وقال المراسل العسكري للتليفزيون إن الطائرات وحدها ألقت على قطاع غزة مليون كيلو جرام ( ألف طن ) من المتفجرات ، وأشار إلى أن هذا الوزن لا يشمل ما أطلقته المدفعية والدبابات والمشاة في الألوية البرية والمدمرات والسفن ، وهذا يعني أن نصيب كل فلسطيني في قطاع غزة من المتفجرات المتساقطة من الجو يساوي 666 جراما ، هذا في وقت أرسلت فيه أمريكا شحنات ذخيرة إلى إسرائيل تقدر بنحو ثلاثة آلاف طن ، واعتبر اللفتنانت كولونيل ( باتريك ريد ) المتحدث باسم البنتاجون أن الشحنة ليس لها صلة بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإنما هي للمخزون الأمريكي من الذخيرة في إسرائيل وهو ما يتماشى مع اتفاقية أجازها الكونجرس الأمريكي عام 1990 – حسب زعمه – وقد سبق لأمريكا أن أرسلت إلى إسرائيل كمية من الذخيرة عام 2006 إبان الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله اللبناني كما فعلت الآن أيضا .
ولكن هل استطاع العدو الصهيوني أن يمسح غزة من الخارطة ؟ وهل استطاع أن يزيح حماس ؟ وهناك سؤال طرح كثيرا هل الصراع بيننا وبين إسرائيل صراع ديني أو صراع على قطعة أرض فقط ؟ أجاب على ذلك إسماعيل هنية رئيس وزراء فلسطين المنتخب انتخابا ديمقراطيا ، في لقائه مع الجزيرة حيث قال( إن الحرب دينية وأثناء الاجتياح البري كان يوجد حاخام إسرائيلي في كل حافلة ، والتركيز الكثيف على تدمير المساجد وإحراق المصاحف يدل على صدق ذلك ) ، وما لم يذكره إسماعيل هنية ذكرته مواقع صهيونية حيث أشارت أن السيدة راحيل وهي أم سيدنا يوسف عليه السلام كانت تدل الجنود الصهاينة على بيوت مقاتلي حماس وأنها حاربت معهم وأن أكثر من حاخام أكد رؤيتها في الحرب وهي أسطورة أخرى أيضا من أساطير بني صهيون التي أسست لدولتهم .
إن الحرب بين قوى الإيمان وقوى الطغيان ستستمر، ومهما كان ميزان القوى بين الفريقين غير متكافئ وغير متساو، فإن القلة القليلة المؤمنة والتي تقدم تضحياتها هي الضمان الأكيد لبقاء هذه الأمة واستمرارها قوية وكخير أمة أخرجت للناس وتحتاج الأمة إلى إعادة صياغتها من جديد، فالنصر ليس رخيصا ولا سهلا ولكن الصياغة تحتاج إلى إنشاء جيل آخر بحيث يتشارك البيت والمدرسة والمسجد والمجتمع والإعلام في تكوينه .
وقد أثبتت حركة حماس كما أثبت حزب الله من قبل بطلان مقولة أن جيش إسرائيل لا يقهر عندما استخدم هذا الجيش نصف قوته الجوية في معركة من طرف واحد وضد حركة واحدة فكيف لو كان ذلك أمام دول تملك جيوشا ولكن قبل ذلك تملك العزة والكرامة ؟!
منشورة في