زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
بعد سنوات قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة أي في يناير عام 2014 ستمر الذكرى الخمسون لمأساة العمانيين في زنجبار والتي أنهت الحكم العماني هناك وأدت إلى مذبحة كبيرة راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم بالقوة ، بعد حكم عماني حقق العديد من الإنجازات والتي لا تزال قائمة تشهد على عراقة العمانيين الذين جعلوا من زنجبار منارة لأفريقيا كلها والتي كانت السباقة في كل نهضة وتطور على صعيد البنيان والتطوروالنماء أو على الصعيد السياسي أو الثقافي والنيابي والإعلامي أو التعليمي.
ومما يؤسف له أن تمر السنوات الخمسون هذه بكل برودة شاهدنا خلالها طمس الهوية العمانية هناك في كل شيء من جانب الأفارقة ومن جانب العمانيين أنفسهم الذين بدوا وكأن الموضوع لا يعنيهم من قريب أو بعيد مما أعطى أناسا آخرين ليس لهم علاقة بذلك المكان أو ذلك التاريخ الفرصة في أن يتصدوا لسرقة ذلك الإرث الحضاري ومحاولة نسبه إلى أنفسهم ، كما أن بعض القنوات الفضائية العربية التي اهتمت بذلك التاريخ حاولت من جانبها التقليل من الدور العماني هناك ، وكل ذلك لأن من يفترض أن يهتموا لم يهتموا إضافة إلى نقطة أخرى يتحملها العمانيون الذين عاشوا هناك وعاصروا النهضة العمانية وعاصروا الأحداث المؤسفة ، فهم يتحرجون من ذكرها وتناولها وكأنهم يتخوفون من التشكيك في عمانيتهم أو ظانين أن التحدث عن ذلك من المحرمات ، وهذا بدوره أدى إلى أن ينتقل الكثير ممن عاصروا الأحداث إلى الدار الآخرة وأخذوا معهم التاريخ في صدورهم مما أوجد إشكالا عند الجيل الجديد من أبناء الوطن الذين لا يعرفون شيئا عن تاريخ بلادهم الناصع وتاريخ أسرتهم الحاكمة.
ولكن هناك بعض النقاط المضيئة الآن والتي سبق لي وأن ذكرتها في مقال سابق في جريدة (الشبيبة) بعنوان (زنجبار أرض القرنفل والنار) حيث أشرت إلى أن هناك الآن من الشباب العماني من بدأ يهتم ويركز على ذلك التاريخ وأن هناك بعضا منهم بدأ يؤلف في هذا الجانب ، ولو أنها محاولات متأخرة إلا أنها مهما يكن فهي محاولات جيدة لأننا لا يمكن أن نعتمد فقط على ما كتبه الغربيون وبالذات البريطانيون الذين هم سبب المشكلة لأن تناولهم للأحداث يأخذ الجانب الاستعماري فقط مما أدى إلى تشويه سمعة العمانيين.
ومن النقاط المضيئة الآن صدور كتاب جديد عن دار الحكمة يباع الآن في مكتبات السلطنة بعنوان ( زنجبار- شخصيات وأحداث ) تأليف ناصر بن عبد الله الريامي.
2
يعتبر هذا الكتاب من الكتب المهمة جدا فهو الكتاب الأول الذي تناول الوجود العماني في شرق أفريقيا وبالذات القصة الحقيقية لما سمي بالانقلاب بمنظور عماني ، إذ اعتمد المؤلف على لقاءات الشخصيات التاريخية الفاعلة في تلك الفترة منهم السلطان جمشيد بن عبد الله بن خليفة بن حارب آل سعيد آخر السلاطين العمانيين في زنجبار ، وزار العديد من الباحثين والمهتمين بالشأن العماني في أفريقيا وكذلك زار الأرشيف الوطني الزنجباري وهو في الحقيقة الأرشيف الوطني العماني لما يحويه من وثائق عمانية من مراسيم سلطانية وقرارات إدارية ومراسلات رسمية والصحف والصور ، واعتمد المؤلف كذلك على المراجع العربية والأجنبية والمخطوطات وسافر إلى بلدان كثيرة وبحث ونقّب مما أعطى الكتاب قيمة علمية كبيرة حيث يعتبر عملا وطنيا صرفا يركز بالأضواء الكاشفة على ذلك التاريخ المجهول والمنسي من تاريخ عمان المجيد وهو التاريخ المرشح للزوال أو للتشويه من الكثيرين قد يكون على رأسهم الأقربون قبل الأبعدين لأنه تاريخ لم يتجاوز نطاق محفوظات الصدور كما أشار إلى ذلك المؤلف نفسه.
لقد جاء كتاب زنجبار شخصيات وأحداث دفاعا عن قضية الفاتحين العمانيين الذين رفعوا راية الإسلام والعروبة في شرق أفريقيا وصنعوا المجد العماني هناك بعد أن نصبوا فيها مشاعل الحضارة والمدنية الحديثة.
وقد استطاع المؤلف ناصر الريامي أن يفند الكثير من الأباطيل والترهات والافتراءات التي نسجتها أقلام الاستعمار البغيضة ضد الحكم العماني في شرق أفريقيا خاصة والعمانيين عامة ، واستطاع ببراعة أن يوثق جانبا مهما من التاريخ العماني الزنجباري في ظل افتقار مكتبات التاريخ إلى مادة تاريخية متخصصة في أحداث زنجبار وشخصياتها وهي شخصيات كانت تمثل صفوة المجتمع العماني آنذاك ولم يتم التركيز عليها أبدا ، فالصفوة كانت تمثل كافة الجوانب من فقهاء وعلماء وقضاة وشعراء وأدباء وكتاب وصحفيين ورحالة ومغامرين وتجار ، ولو أن المؤلف اكتفى بصور الشخصيات العمانية في زنجبار التي نشرها في آخر الكتاب لكان ذلك يكفي ولكن كيف به وقد تحدث عنها باستفاضة ؟
3
بقدر ما هو شيء مهم وعظيم توثيق التاريخ العماني في زنجبار إلا أن من يطلع على هذا الكتاب فإنه يصاب بحسرة وألم لما آلت إليه الأمور هناك خاصة بعد أن يطلع على المؤامرات التي حيكت ضد هذا الوجود وضد الأسرة الحاكمة التي لها الفضل الكبير في تطور ورقي الشرق الأفريقي كله خاصة العاصمة زنجبار التي ترقد على ثراها شخصية عبقرية نادرة في الوطن العربي هي السيد سعيد بن سلطان الذي أسس الحكم العماني الحديث هناك وبنى دولة عصرية كانت الأولى في القارة كلها وهو الذي بنى اقتصاد زنجبار بزراعته للقرنفل في تلك الجزيرة والذي أصبح مصدر الدخل الرئيسي الآن ، وقد كانت زنجبار أول دولة في شرق أفريقيا تدخلها الكهرباء وكذلك الهاتف وشبكة المياه التي تأسست منذ عام 1872 وفي تسيير خط للملاحة البحرية بين زنجبار وعدن التي كانت ميناء مهما جدا ، كما أن شبكة الاتصالات الهاتفية بين زنجبار وعدن بدأت عام 1879 ، كما تم إنشاء أول مطبعة ربما في القارة الأفريقية كلها هي المطبعة السلطانية التي طبعت أمهات الكتب العمانية وأصدرت الصحف العربية ، وكل ذلك قبل وصول البريطانيين إلى هناك والفضل في ذلك يعود إلى عهد السيد سعيد بن سلطان وإلى عبقريته وبعد نظره ورؤيته المستقبلية.
ومن الفصول المهمة في الكتاب الفصل الرابع الذي عنونه المؤلف بسقوط زنجبار استعرض فيه انقلاب يناير الأسود والدموي عام 1964 ، حيث ركز على أهم التفصيلات منذ البدايات الأولى وحتى لحظات الإعلان عن سقوط زنجبار باسناد خارجي معتمدا على المقابلات الشخصية وعلى الوثائق الخارجية منها وثيقة مهمة صادرة عن وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية والتي تشير إلى أنه كان هناك أكثر من مخطط لإسقاط الحكومة العمانية ، ويشرح بالتفصيل الكيفية التي مكنت الإنقلابيين من الإطاحة بالحكومة رغم قلة عتادهم ، ولقد تضمن الفصل أهم القرائن المؤيدة لفرضية التدخل الانجليزي لإنجاح الانقلاب ، وهي أصبحت الآن حقيقة مؤكدة.
وهناك معلومات مهمة جدا تناولها ناصر الريامي في كتابه وهي التدخل الإسرائيلي في شؤون القارة الأفريقية وهي السياسة المعلنة منذ بداية إنشاء إسرائيل والتي أشرت إليها في مقال سابق لي في (الشبيبة) تحت عنوان ( تفتيت السودان – مصلحة إسرائيلية ) ، حيث أشار ناصر إلى نجاح جولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك في استمالة المعارضة في زنجبار حيث زودتها بالكثير من المساعدات المالية والعينية لأن الحكومة العربية في زنجبار تعاطفت مع القضية الفلسطينية – وهذا طبيعي - وهو الأمر الذي دعا رئيس الوزراء الزنجباري إلى الإعلان صراحة عن معارضة حكومته لإسرائيل وذلك في الخطاب الذي ألقاه يوم الاستقلال العاشر من ديسمبر 1963 ، وأورد ناصر الريامي معلومات مهمة أخرى في هذا السياق عن الزيارة الخاطفة التي قام بها لزنجبار موشيه ديان – الذي أصبح وزيرا للحرب في إسرائيل – في الفترة السابقة لسقوط الحكومة الشرعية ، ثم الزيارة التي قام بها لزنجبار ديفيد كيمحي ( كيمكي ) وهو النائب الثاني لرئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد والمسؤول عن الشؤون الإفريقية وذلك فور سقوط زنجبار ومغادرة السلطان جمشيد إلى منفاه ، حيث استقر كيمحي في مقر قائد الانقلاب وتقابل معه دون أن ينشر حتى الآن ما دار بينهما من حديث أو اتفاقيات ، لكن الوثائق التي تنشرها إسرائيل ستوضح يوما ما عما دار في ذلك الاجتماع وسيقول التاريخ حتما قوله في تلك المأساة.
4
لقد مرت خمسون عاما أو تكاد سريعة على الأحداث التي جرت في زنجبار في ذلك التاريخ الأسود ، ولكن المؤسف حقا هو أن ينمحي كل أثر عماني هناك وذلك بتقصير عماني واضح ، وبرغبة أخرى من آخرين لهم عقدة من التاريخ العماني حيث يحاولون سرقة تاريخ غيرهم أو تبني تزوير التاريخ بما يملكون من مال وإعلام.
ولا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لآلاف الناس أن يقتلوا في مذبحة لم يتكلم عنها أحد أبدا ولم يدافع عنهم أحد ؟ كيف لأناس تعرضوا للاغتصاب ونهب ثرواتهم وأموالهم ولا يتكلم عن ذلك أحد ؟ كيف يمكن إلغاء تاريخ كامل وهوية كاملة من بلد ساهم في بنائه وتطويره عمانيون ؟
إن المسؤولية كبيرة على الجهات المعنية في الدولة لإعادة الاعتبار إلى ذلك الجزء من تاريخ الوطن بالحفاظ على ذلك التاريخ والإرث الحضاري كل في مجاله ، وقد قال لي من ذهب إلى الأرشيف الوطني الزنجباري إن كل الوثائق العمانية مهددة بالانقراض لسوء حال الأرشيف وهو لا يحتاج إلى الشيء الكثير لإصلاحه ، وهناك ولله الحمد محاولات جادة من رجل أعمال إماراتي - جزاه الله خيرا عنا وعن عمان - للحفاظ على الوثائق والمخطوطات العمانية في الارشيف و قد قطع شوطا كبيرا في ذلك حيث يصوّر نسخة منها ويأخذها لمكتبته.
لقد اطلعت على كتاب صدر في أبوظبي عن العمارة الإسلامية في زنجبار به صور عن قصور السلاطين العمانيين العظام واطلعت على المقبرة السلطانية وقبر السيد سعيد بن سلطان رحمه الله فأصابني غم فوق غم من ذلك الإهمال الذي لحقهم ، ولكن هل لي أن ألوم الزنجباريين وهم الذين انقلبوا على من كان لهم الفضل عليهم ؟
إن الحديث عن زنجبار يحتاج إلى مجلدات وليس إلى مقال واحد أو اثنين ويجب من الآن أن يستعد المهتمون بالوجود العماني في شرق أفريقيا لذكرى مرور 50 عاما على السقوط لأن الحق يجب أن لا يغيب ويجب أن تبقى الحقيقة ناصعة البياض ، ونتمنى من المسؤولين في وزارة الإعلام أن يهتموا بتوثيق التجربة العمانية هناك بأن يواصلوا تسجيل حلقات الوجود العماني في شرق أفريقيا التي قدّم منها الزميل محمد المرجبي حتى الآن جزءين فقط لأن في الجعبة الكثير ولأن الجيل الذي هاجر من عمان إلى أفريقيا ينقرض ، ولا يخفى ما حققه الجزءان من نجاح ومتابعة جماهيرية ، والخطوة التالية المطلوبة من الزميل محمد هي توثيق تلك التجربة في كتاب وقد أخبرني الزميل إبراهيم اليحمدي أنه تقدّم بطلب للمسؤولين في وزارة الإعلام اقترح فيه برنامجا توثيقيا عن المخطوطات العمانية في الأرشيف الوطني الزنجباري وهو صاحب تجربة في هذا المجال ، إلا أن الرد تأخر أكثر من سنتين ربما لظروف مالية ولكن ما هي قيمة المال ؟ وفي الواقع هناك بعض الشركات تستطيع أن تتبنى برامج كهذه التي ستبقى في مكتبة التليفزيون مدى الدهر وفي المقابل سوف تجذب فئة مثقفة مهمة لمتابعتها بدلا من الاعتماد فقط على برامج صناعة الخزفيات والجحال وكأن ذلك هو التاريخ العماني أو كأن الشهرة العمانية مستمدة فقط من تلك الصناعات التي لم يعد يستخدمها أحد الآن ، والكثيرون في العالم يربون نحل العسل ويصنعون المهفة واللهّابة والخزفيات والجحال ولكن ليس كل أحد لديه ذلك الإرث التاريخي والثقافي ، ومن المثير أن من يملك ذلك التاريخ والإرث يهمله ومن لا يملكه يحاول أن يتبناه أو يسرقه !
5
لقد بذل ناصر بن عبد الله الريامي على مدى سبع سنوات أو أكثر جهدا كبيرا في سبيل إخراج هذا الكتاب "الوثيقة" إلى النور ، وقراءته شبه واجب على كل عماني وعمانية حتى يكونوا على بينة في كثير مما خفي عليهم أو أشكل عليهم فهمه في أحداث زنجبار.
منشورة في جريدة الشبيبة العمانية في 12 مايو 2009م
No comments:
Post a Comment