زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
هناك العديد من النقاط بحاجة إلى بحث ودراسة في التاريخ العماني في شرق أفريقيا لأن من كتب ذلك التاريخ هم المستعمرون الإنجليز وبالتأكيد فإن كتاباتهم تكون دائما من المنظور الاستعماري فقط ولا يمكن أن يقدموا إلا ما يرونه ناصعا لتاريخهم وغالبا لن يعكس الحقيقة ولن يكون حقا من هذه النقاط التي تحتاج إلى بحث كما سألني أحد الإخوة المثقفين ما الفرق بين فتوحات العمانيين في شرق أفريقيا وغزو البرتغاليين لعمان وهو موضوع تولى المستعمرون الإنجليز طرحه كثيرا ، ثم هل كان الوجود العماني هناك استعمارا أو احتلالا؟ وهل ما حدث عام 1964 كان استقلالا ؟، ثم لماذا كانت المذبحة بذلك العنف ولماذا لم يتدخل الرئيس جمال عبد الناصر لإيقافها ؟بل لماذا سارعت مصر إلى الاعتراف بالانقلابيين فورا رغم أن مصر كانت قد ارتبطت بعلاقات جيدة مع حكومة زنجبار المنتخبة ، وما دور العمانيين في تجارة الرقيق ؟ وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي تبحث عن إجابات صحيحة لا عن الإجابات التي تولى نشرها الإنجليز، وفي حقيقة الأمر فإن ناصر بن عبد الله الريامي قد تولى أمر التصدي لمثل هذه الأسئلة التي وصلت إلى حد الافتراء على الوجود العماني في الشرق الأفريقي في كتابه الذي أشرت إليه الأسبوع الماضي وهو ( زنجبار – شخصيات وأحداث ) والكتاب محاولة جادة وجيدة للبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها .
على أنه واجب علي أن أشيرإلى أن أحد أحفاد الشيخ علي بن سعيد المغيري مؤلف كتاب جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار اتصل بي بعد مقال الأسبوع الماضي موضحا أنني ذكرت أن ناصر هو أول من وثّق للوجود العماني في شرق أفريقيا ولكن الواقع يقول إن الشيخ المغيري سبق ذلك بكتابه جهينة الأخبار ، ولتوضيح ذلك أشير إلى أن هناك كتبا كثيرة صدرت حول الوجود العماني في الشرق الأفريقي منها جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار إلا أني قصدت في مقالي السابق أن ناصرهو أول من وثّق لعملية الانقلاب على الحكم العماني بالتفصيل وهو حدث مهم جدا ويجب أن يتناوله المؤرخون ، فيما كان الشيخ سعيد بن علي المغيري قد انتقل إلى رحمة الله قبل الانقلاب بسنتين.
ومن الأكاذيب الكبرى التي روج لها المستعمر الإنجليزي ما عرف بأقصر حرب في التاريخ حيث أصبحت من المسلّمات خاصة وأنها سجلت في موسوعة جّنيس للأرقام القياسية كأقصر حرب ، وسنويا يتم نشر تلك المعلومة في باب في ( حدث في مثل هذا اليوم ) على أن الحرب واقعة حقيقية ولكن ما هي تفاصيل تلك الواقعة وكيف حدثت ؟
2
بعد وفاة السلطان حمد بن ثويني عام 1896 م بادر السيد خالد بن برغش بن سعيد بن سلطان بدخول بيت الحكم الذي بناه عمه السيد ماجد وجلس على كرسي المملكة ، وقد عاضده في ذلك – كما يقول الشيخ المغيري – زعماء العرب وأعيانها والمسلمون وهي إشارة واضحة لمدى تقبل وتأييد الشعب له كسلطان عليهم ( وكلمة المسلمين هنا تعني الرعية ) كما أن السيد حمد بن ثويني نفسه كان قد أشار إلى السيد خالد أن يأتي إلى بيت الحكم وكان ينوب عنه في حضور حفلات المولد النبوي ، وقد أرسل السيد خالد إلى قناصل الدول يخبرهم بما صار ويعدهم بالمحافظة على الأمن وينذرهم من مغبة التدخل في شؤون زنجبار وأنه سيكون حينها مضطرا لاستعمال القوة بدون أن يتحمل تبعة ما يراق من الدماء ، لكن ذلك لم يرق للإدارة الإنجليزية التي تستعمر زنجبار فأرسل القنصل الإنجليزي للسيد خالد يأمره بإنزال العلم الخفاق على القصر علامة الخضوع للتاج البريطاني وحدد له الساعة الثالثة بالتوقيت العربي أي التاسعة صباحا من يوم 27/8/1896 م إن لم يخرج من القصر ويطيع أوامر الدولة الإنجليزية وإلا فإن البوارج الحربية ستطلق بطاريات مدافعها على القصر ، إلا أن السيد خالد رد بأنه يؤثر الموت على ترك الإنجليز يتدخلون في شؤون السلطنة الداخلية وينصبون سلطانا على هواهم.
وفي صبيحة اليوم المحدد ظهر العلم خفاقا فوق القصر أعلى مما كان سابقا ، وفي الموعد المحدد أطلقت البوارج الإنجليزية نيرانها الحامية ثم نزلت الجيوش الإنجليزية إلى البر واستولت على المدينة بعدما هدمت القصروبيت الساحل الذي بناه السيد سعيد بن سلطان وأصابت بيت العجائب والتهمت النار نصف الجمرك الذي كان قريبا من الجزيرة وقتل في العدوان حوالي 500 شخص ، أما مصير السيد خالد بن برغش فقد نفي خارج وطنه بمساعدة القنصل الألماني ، متنقلا بين دار السلام وسيشل وسانت هيلانة وممباسا حتى وفاته وهو في حال سيئة للغاية ، وتقول المصادر الإنجليزية إن الحرب استمرت 25 دقيقة فقط.
ويقول المؤلف ناصر بن عبد الله الريامي في كتابه المهم ( زنجبار شخصيات وأحداث ) تعليقا على هذه الواقعة إنها اعتداء دولة عظمى بأسلحتها الثقيلة على دولة تراجعت كثيرا عما كانت عليه وبأسلحتها التقليدية المتواضعة ، ولا يمكن بأي حال أن يطلق على الواقعة (حرب )بل إن الأقرب إلى الصحة هو تسمية الحادثة بالعدوان الغاشم أو فرض إرادة بقوة السلاح ولعل ما نتج عنها هو خير برهان على ذلك.
وأنا أتفق تماما مع رأي الأخ ناصر لأن العصر الحديث شهد أكثر من عدوان على هذه الشاكلة ، فإذا كانت تلك هي أقصر حرب في التاريخ وليس عدوانا أو غزوا فماذا يمكن أن نسمي تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي في دقيقتين اثنتين فقط ؟ ثم ألم تدمر القوات الإسرائيلية مقر الرئيس ياسر عرفات في تونس تدميرا كاملا في دقائق ؟ وكذلك فعل الرئيس رونالد ريجان عندما أغار على ليبيا قاصدا الرئيس القذافي ودمر بيته ، ثم ماذا يمكن أن نسمي تدمير الطائرات الأمريكية لمصنع الشفاء للأدوية في السودان في ثوان ؟ وماذا يمكن أن نسمي قصف الطائرات الإسرائيلية لقافلة في السودان مطلع العام الحالي ؟ هل يمكن أن نسمي كل ذلك حربا ؟ إن ذلك عدوان غاشم أقرب إلى بلطجة وهو عدوان من طرف واحد ، والتاريخ لم يختلف أبدا فما فعلته إنجلترا تفعله أمريكا الآن.ولكن يحق لنا أن نسأل ماذا حقق المستعمر الإنجليزي وراء ذلك العدوان الغاشم ؟
3
لقد وقر في عقيدة العرب وأسرتهم الحاكمة بعد تلك الحادثة أن الإنجليز هم الذين يملكون زمام تحديد السلطان وتعيينه وهذا دفع بالسلطان حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان ، الذي نصبته انجلترا سلطانا على زنجبار بعد الحادثة مباشرة إلى الإحساس بالدين تجاه الإنجليزوبضرورة رد الجميل لذا كان في حكم المستعد دائما لتقديم الكثير من التنازلات لمصلحة الإدارة الإنجليزية التي استثمرت هذا الوضع وعملت في عهده على اعتماد قدر لا يستهان به من القوانين والأنظمة التي تتفق مع مصالحها الإستعمارية مما كان يعني من ضمن ما يعني إلغاء سلطات السلطان وتقليصها ولكن هذا لم يعجب السلطان علي بن حمود الذي ورث العرش عن أبيه ، فتصدى للوقوف أمام المطامع الإنجليزية واشتهر هذا السلطان الشاب الذي تلقى تعليمه في بريطانيا بوقفاته الشجاعة في مواجهة الإدارة الإنجليزية يحركه في ذلك صالح الأمة فعمل على تأسيس أول مدرسة نظامية للبنين رغم أنف سلطة الاستعمار التي افتتحت مدارس الإرساليات والتنصير في دولة يبلغ عدد مسلميها 95% ، وعمل على تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي ، وكان له إنجازات عظيمة منها إنشاء محطة كهرباء وإنشاء سكة حديد زنجبار – بوبوبو .
وأسس مجلسا لمعاونته في الحكم يتكون من 4 أعضاء معينين و4 يتم اختيارهم من العناصر الرئيسية المقيمة في زنجبار من عرب وسواحليين وهنود ولكن ما ضايق الإنجليز أكثر هو نجاح السلطان السيد علي بن حمود في إقامة علاقات قوية مع الكتل الخارجية حيث تجاوب السلطان الشاب مع حركة الجامعة الإسلامية التي أعلنها السلطان عبد الحميد الثاني وهي الحركة التي كان هدفها إيجاد نوع من الوحدة بين مسلمي العالم وذلك لمواجهة أعداء الإسلام ، وقد زاد القلق الإنجليزي تعمقا عندما تحول تأييد السلطان علي بن حمود لفكرة إنشاء الجامعة الإسلامية إلى واقع حي عندما أوفد مبعوثا منه إلى فرنسا لإصدار صحيفة إسلامية للدعاية للفكرة وهي صحيفة (فتح البصائر) التي تحولت فيما بعد إلى صحيفة (مرشد الألباب) التي عمل على رئاسة تحريرها موفد السيد علي بن حمود وهو سالم القمري وهو شاب عربي من جزر القمر كان يتقن العربية والفرنسية ، كما أن رحلات السلطان الخارجية التي زار فيها تركيا والحجاز واستقبل فيها استقبالا كبيرا وأطلقت له المدافع أقلقت الإنجليز وعملوا على إزاحته من الحكم بطريقة مهينة لا تقل عن طريقة السيد خالد بن برغش من قبل .
وخير دليل على تلك الطريقة ما نشره ناصر الريامي من وثائق قام بترجمتها من اللغة الإنجليزية في الأرشيف البريطاني منها وثيقة تدعو السلطان علي بن حمود إلى ضرورة تقديم استقالته مع تعهد الحكومة البريطانية في المقابل بدفع أجر سنوي له مقداره ألفا جنيه استرليني لإعاشته وعائلته شريطة أن يتعهد بعدم عودته إلى زنجبار دونما الحصول على إذن مسبق من حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى ، كما أن ناصر الريامي يترجم وثيقة أخرى حول الإعلان البريطاني عن تنازل السيد علي بن حمود عن السلطة لظروفه الصحية وهو الإعلان الذي لم يصدقه أحد في زنجبار أبدا ولكن يبقى أن القشة التي قصمت ظهر البعير في أمر السيد علي بن حمود هي أنه كان ذا بأس شديد على الإدارة الإنجليزية لاستنكاره لحقيقة خضوع بلاده لسلطة الاستعمار فكان فظا في التعامل ليس مع الموظفين الإنجليز العاديين فحسب وإنما مع القنصل العام البريطاني نفسه حيث أمره مرة في محفل عام أن يجثو أمامه ليربط له خيط حذائه قاصدا إهانته .
وما كان أبدا للإنجليز أن يقبلوا إهانة كهذه فأجبرته انجلترا على التنازل عن العرش معزية السبب إلى الظروف الصحية إلا أن العالمين بشخصية السيد علي بن حمود القوية ومواقفه ضد سلطة الاستعمار فطنوا – كما يقول ناصر الريامي – أن الأمر لا يخرج عن كونه سياسة من سياسات القهر والإجبار وممارسة الإدارة الإنجليزية صلاحياتها في تعيين واستبقاء من يروق لهم لحكم البلاد ، فقررت تنصيب السيد خليفة بن حارب سلطانا على عرش زنجبار.
4
إن ما فعله الإنجليز ضد السيد خالد بن برغش في أكذوبة أقصر حرب في التاريخ وما فعلوه مع السلطان علي بن حمود ليس إلا قطرة من بحر.
وهكذا كانت بريطانيا في تاريخها الإستعماري ، وما من مشكلة في العالم إلا وكانت تقف وراءها قبل أن ترث الولايات المتحدة الأمريكية منها هذا الدور ، وليس أدل على ذلك من الوقوف مع الانقلابيين في زنجبار كما يبدو ذلك جليا في الوثائق العمانية في الخارجية البريطانية.
لقد قيّض الله للعالم المهاتما غاندي الذي نسج بيديه كفن الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس وجاء أخيرا الرئيس جمال عبد الناصر ليدق المسمار الأخير في نعش الإمراطورية البريطانية حتى جاء اليوم الذي رأينا فيه توني بلير رئيس الوزراء البريطاني مجرد سكرتير أو ناطق رسمي باسم جورج بوش سيد البيت الأبيض في واشنطن !
No comments:
Post a Comment