كاتب عماني
1
نشرت جريدة الأندبندت البريطانية رسالة لأحد قرائها أيام الحرب الإسرائيلية على غزة يقول فيها إن كل المتحدثين الإسرائيليين الذين يظهرون على قنوات التليفزيون الغربية هم من اليهود ذوي الثقافة الراقية واللسان الإنجليزي المبين وممن يعبّرون برصانة تامة عن وجهة نظر مدروسة بعناية وكأنهم أصحاب حق وأصحاب قضية عادلة مع أنهم هم الذين يقترفون جرائم الهدم والتذبيح ضد الفلسطينيين أما المتحدثون الفلسطينيون - كما كتب القارئ - فعلاوة على أن جميعهم تقريبا من أصحاب اللحى الكثة والمظهر المنفّر فإنهم لا يستطيعون التحدث بالإنجليزية ويخفقون إخفاقا ذريعا في مجرد التعبيرعن محنتهم ومحنة أهل غزة وتساءل القارئ هل هذا شيء متعمد ومبيّت بليل ؟
إن رسالة هذا القارئ صغيرة في حجمها لكنها تحمل مضمونا كبيرا وتوجه عدة رسائل ليس فقط إلى الفلسطينيين بل إلى العرب والمسلمين أجمعين إذ من المفترض أن يكون صاحب الحق هو الأجدر في الدفاع عن حقه طالما يؤمن بعدالة قضيته ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تظهر الرسالة عجز العرب عن التعامل مع وسائل الإعلام العالمية وهي التي أصبحت تؤثر في الناس وبيدها أن تقلب الحقائق إذا تم استغلالها الاستغلال الأمثل كما تفعل إسرائيل بل إن هذه الرسالة تفتح آفاقا للنقاش حول جمود فكرالمسلمين وانغلاقهم على ذواتهم وعلى موروثاتهم فقط حتى لم يعد لهم صوت يذكر في العالم وفي كل مرة يتم فيها طرح علاقة المسلمين بالعالم تحضرني الكلمات السامية التي قالها جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ عام 1994 في خطابه السامي عندما قال ( عندما انتشر الإسلام خلال العصور التالية للعهد النبوي ظهرت مسائل جديدة احتاج المسلمون إلى معرفة حكم الشرع فيها فماذا صنعوا ؟ لجأوا إلى الاجتهاد واستنبطوا الأحكام المناسبة وكان من نتيجة ذلك هذا التراث الفقهي الثري المتنوع الذي نفخر به اليوم ، لقد أثبتوا أن الشريعة قادرة على مواجهة مختلف الظروف في مختلف البيئات غير أن تخلف المسلمين في العصور المتأخرة جعلهم يتحجرون على موروثهم من الآراء الفقهية ولم يحاولوا التجديد في هذه الآراء وفقا للمبادئ والقواعد التي قررها الشرع الحنيف كما لم يحاولوا استنباط أحكام شرعية مناسبة للمسائل التي استجدت في حياتهم ، إن أقل ما يقال في هذا الجمود الذي ارتضاه المسلمون أنه لا يتمشى مع طبيعة الإسلام الذي يدعو إلى التطورالفكري ومواجهة تحديات كل عصر وكل بيئة بما يناسبها من الحلول المنطقية الصحيحة باستخدام قواعد استنباط الأحكام خدمة للمجتمع الإسلامي )
2
تمر علينا سنويا ذكرى الإسراء والمعراج على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ويحتفل المسلمون بهذه الذكرى حيث يتكرر الحديث عنها في المنابر ووسائل الإعلام بنفس الأسلوب دون تغيير رغم أن الوضع قد تغير من يوم حادثة الإسراء والمعراج إلى هذا اليوم وأصبح المسجد الأقصى أسيرا ينتظر الهدم في أية لحظة ولكن لغتنا لم تتغير وهي التي ما زالت تتحدث عن تلك الرحلة وإنكار مشركي قريش لها والدليل المادي الذي طلبه المشركون من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أكد لهم أن قافلة لقريش ستصل إلى مكة بعد 3 أيام يتقدمها جمل أورق وكأنّ المعجزة هي فقط في وصول القافلة بعد 3 أيام وأن جملا أورقا هو الذي يتقدمها وغيرها من الحكايات التي لم تتغير أبدا رغم تغير الزمان ووسائله والذي يسمع كل تلك الخطب والاحتفالات التي تقام بهذه المناسبة يخرج بانطباع واحد هو أن المسلمين يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأن المعجزة فعلا قد تحققت وحدث الإسراء والمعراج ، بمعنى أن الكلام الذي قيل قبل الهجرة بعامين وهو الكلام الذي وجه لمشركي مكة ومنكري الإسراء والمعراج هو الذي يقال الآن بعد وقوع الحدث بأكثر من 1432 عام لأن عقل المسلمين قد جمد من ذلك اليوم ولم يعش التطورات والواقع على الأرض مما جعل الناس تنفر من سماع خطب كهذه أو المشاركة في كل الندوات التي تقام بل تعدى الأمر ذلك إلى شعيرة أساسية من شعائر الدين وهي خطبة الجمعة بحيث أصبح من يعاني من الأرق لا يجد دواء لأرقه خيرا من حضور خطبة الجمعة وعندها سينام قرير العين إذ أن العالم يكون في واد والخطبة تكون في واد آخر هذا غير الأخطاء التي يأتي بها الخطيب لأنه مجرد مؤد عليه أن يقول ما هو مكتوب له وفي كل الأحوال سيستلم راتبه في نهاية الشهر
في معظم الخطب لا يتم التركيز على وضع المسجد الأقصى الآن أو على القضية الفلسطينية رغم أن المسجد الأقصى يحتل مكانة كبيرة في قلوب المسلمين وله رمزية كبرى ، وفي رحلة الإسراء والمعراج أسرى الله بنبيه صلى الله عليه وسلم أولاً إلى المسجد الأقصى ليلفت أنظار المسلمين في وقت مبكِّر من عمر الدعوة إلى هذه البقعة المباركة ثم أمره بعد فرض الصلاة أن يتوجه إلى المسجد الأقصى سبعة عشر شهرا لتظلَّ أنظار المسلمين متجهة إليه وقلوبهم معلقة به في صلاتهم ودعائهم ، ورغم هذا فالمسجد الآن أسير في قبضة الصهاينة يحيكون له المؤامرات بهدف هدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه والجيل الجديد من شباب الأمة لا يعرفون عن ذلك شيئا ولا عن قدسية المسجد الأقصى ولا عن القضية الفلسطينية لأن الخطبة فقدت معناها ومغزاها والخطباء مشغولون بالجمل الأورق الذي يتقدم القافلة بينما أرض الإسراء والمعراج ومسرى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ومصلاَّه بالأنبياء أسير تحت سلطان اليهود مما أدى إلى موت الحس الإسلامي وإلى تجمَّد المشاعر
ليس مطلوبا من الدعاة أو الخطباء أن يعملوا على تهييج الجماهير ولكن واجبهم أن يبصّروا الأمة بالحقائق وأن يخاطبوا الناس بلغة عصرهم وهو عصر خطيرعصر الفضائيات والأنترنت والفيس بوك وتويتر وعصر الاتصالات والبلوتوث ، وهذه الوسائل الآن هي معنى لسان القوم ، فالله سبحانه وتعالى عندما يقول في سورة إبراهيم { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ..} فلا يمكن أن يتبادر إلى الذهن أن المقصود به اللغة المنطوقة فقط رغم أن ذلك صحيح باعتبار ورود كلمة ( لسان ) بل الأمر يتعدى ذلك إلى معنى آخر أشمل هو لغة ما يتناسب مع عصر كل قوم وما يحتاجون إليه من وسائل الإقناع والآيات حسب حياتهم وبيئتهم إذ ليس معقولا بالمنطق أن يبعث الله نبيا إلى قوم وهو يتكلم لغة لا يعرفونها خاصة في تلك الأزمنة الغابرة ، ولو فرضنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش في العصر الحالي هل كان سيرضى الجمود ؟ لا بل إنه كان سيستغل وسائل العصر الحديث كلها لتبليغ الدعوة الإسلامية للعالم ، كذلك كان سيستنبط أحكاما جديدة تتناسب مع متطلبات العصر ولكن بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى فإن المهمة الآن هي مهمة المسلمين لتبليغ الرسالة العالمية تصديقا لقول الله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ، فالرسالة شاملة للعالمين وحتى تكون كذلك على المسلمين أن يخرجوا من جمودهم الفكري الذي ارتضوه لأنفسهم - كما أشار إلى ذلك جلالة السلطان المعظم في خطابه السامي ذلك - وأن يتعاملوا مع العصر بلغته ومتغيراته وأن يخرجوا من انغلاقهم وتقوقعهم على الموروثات القديمة والاكتفاء بها وعليهم أن يستغلوا تكنولوجيا العصر الحديث ويعوا اللغة التي يجب أن يخاطبوا بها العالم
3
إن رسالة قارى صحيفة الأندبندت البريطانية تطرح نقاطا مهمة حول فشل العرب والمسلمين في الوصول إلى العالم لإظهار قضاياهم العادلة وليس أدل على ذلك الفشل من إلصاق تهمة الإرهاب إلى المسلمين أو إلصاق تهمة التخلف بهم ، وهناك عدة أسباب لذلك لكن أبرز الأسباب تعود إلى المسلمين أنفسهم إذ أن هناك من أهان الإسلام وألحق بالرسول صلى الله عليه وسلم أكبر الإهانات أكثر مما فعلته الرسوم المسيئة مثل الذي أجاز رضاع الكبير حتى تنتفي صفة الخلوة غير الشرعية في العمل مما أثار تعليقات وسخريات في العالم ، ومثل ذلك الذي أصر على أن الصحابة كانوا يتبركون ببول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما أدى إلى تعليقات كانت كلها مسيئة ، وقد طرح ذلك الكلام أسئلة لا تتجرأ النفس أن تطرحها على الملأ لأن كلاما كهذا أساء إلى الرسول الكريم فالإنسان يمكن أن يسأل أسئلة محرجة مثل كيف كان عليه الصلاة والسلام يتبول وهل كان يقسم بوله لأصحابه بالتساوي وهل كان يكفي الكل وغير ذلك من الأسئلة وهي أسئلة قد تكون مشروعة طالما أن الكلام صدر عن عالم مسلم وهو بالتأكيد يعتز بدينه ولكنه أكيد يجهل لغة العصر وأراد أن يفيد فإذا هو يضر، ثم هل مشاكل المسلمين أو مشاكل العالم انتهت ولم تبق إلا هذه المسألة ؟
في مستهل شبابي كنت أستمع في أحد المساجد إلى درس قصير بعد صلاة العصر يقرأ من كتاب وبعد مرور 30 عاما ذهبت لزيارة ذلك المسجد وكانت المفاجأة أن من قرأ لي الدرس قبل 30 عاما وجدته يقرأ من الكتاب نفسه ويخطأ الأخطاء النحوية ذاتها ويكاد الحضور هم أنفسهم إلا من انتقل إلى رحمة الله تعالى أو انتقل إلى السكن في حي آخر، فهل هناك جمود أكبر من هذا بأن يشهد العالم متغيرات ويتم ذبح المسلمين في كل مكان ونحن على مدى 30 عاما نقرأ نفس ما قرأناه دون أن نعيش الواقع ؟ وهل هذا الإنسان يستطيع أن يقنع العالم بالإسلام وأن الدين الإسلامي دين عالمي وقد ختم به الله الرسالات ؟ ثم ماذا قال المتحدث ؟ قال إن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان يشرب من اصبعه الإبهام اليمنى لبنا ومن الإبهام الثانية زبدة ، قلت في نفسي لو أن هذا الإنسان يتحدث أمام أناس غربيين ولهم الرغبة في أن يدخلوا الإسلام ماذا سيكون موقفهم بعد سماع هذا الكلام ؟
بل إن أحد الإخوة الأعزاء قال لي إن جماعة خرجت في سبيل الله مشيا على الأقدام من مسجد في السيب إلى ولاية العامرات تطبيقا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد استغربت من ذلك الوقت الضائع سدى وتذكرت ما رواه القرآن الكريم في سورة النمل عندما أراد نبي الله سليمان أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين } هذا كان عرضا مغريا جدا وهو معجزة بكل المقاييس لكن النبي سليمان فضل عرضا آخر أسرع عندما { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ..} فلا وقت لتضييعه أبدا فماذا استفاد الإسلام والمسلمون من أناس يمشون على الأقدام تحت الزعم بأن ذلك يعد تطبيقا للسنة النبوية ووسائل النقل متوافرة ؟
4
لقد أصيب الإسلام في مقتل بفضل جمود أبنائه وقد ذكر الأستاذ فهمي هويدي في مقال بعنوان ( مفاجأة ) في جريدة الشروق المصرية كلاما له مغزاه الكبير إذ قال إنه التقى إحدى الناشطات المسلمات فى الولايات المتحدة وحدثته عن صور اضطهاد المباحث الفيدرالية للمسلمين وكيف أن عملاءها أصبحوا يندسون في أوساط المسلمين المترددين على المساجد بوجه أخص لكي يتخيروا أكثرهم ضعفا وخفة ويقنعوهم بوجوب الجهاد ضد الأمريكيين الكفار وحين يجدون منهم قبولا فإنهم يحددون لهم الأهداف التي يتعين الهجوم عليها ويوفرون لهم عدة الشغل من خرائط وأسلحة ومتفجرات لينتهي الأمر بهم إما إلى السجن أو الترحيل ، ومن هذ الكلام نستطيع أن نعلم قصة هجمات 11 سبتمبر كيف حدثت ولماذا حدثت ، ونستطيع أن نعلم قصة الجهاد الإسلامي في أفغانستان كيف تمت ؟ ولمصلحة من تمت ؟ والنقطة البارزة في ذلك هي الإختراق الكبير للمسلمين لأنهم لم يعيشوا عصرهم
يمكن أن نسأل سؤالا هو لماذا تعلقت الأمة بأشرطة الشيخ عبد الحميد كشك إلى يومنا هذا وهي لا تزال تحقق أعلى المبيعات رغم أنها قديمة ؟ لقد كان الشيخ كشك رحمه الله رحمة واسعة ضمن كوكبة من العلماء الذين عاشوا عصرهم وفهموا لغته وتمكنوا من تناول مشاكله ووضع الحلول ولم تكن شهرته مستمدة فقط من هجومه اللاذع ضد الحكام وأنه كان لا يخشى في الله لومة لائم بل إنه استمد شهرته من متابعته للأحداث اليومية من الإذاعة والتلفاز والصحف اليومية رغم أنه كان ضريرا إلا أنه كان يخاطب الناس عن حياتهم اليومية ولم يعتمد فقط على النقول من الكتب القديمة ، وفي هذا يعجبني قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حين قال إنه عندما يرى بين الفقهاء خلافا في قضية ما ينظر إلى أدلتهم نظرة محايدة ثم يرجّح من يقع في نفسه أن دليله أقوى غير ضائق بوجهة النظر الأخرى أو معترضا الآخذ بها ، ويقول الشيخ الغزالي ( مع النظر إلى الدليل أهتم اهتماما شديدا بأمرين : ما الأيسر على الناس ؟ وما الأقرب إلى مصلحة الدعوة الإسلامية في بلد ما أو في عصر ما ؟ وعندما أستين الأيسر الذي لا حرج فيه أفتي به ! وقد اتهمني البعض بتتبع الرخص فلم أبال التهمة وقلت : بل أنا أولى بالسنة الشريفة "ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه ")
فعلى المسلمين أن يعيشوا الواقع ويرفضوا الجمود الذي ارتضوه لأنفسهم لأن هذا الجمود - كما قال جلالة السلطان المعظم - لا يتماشى مع طبيعة الإسلام الذي يدعو إلى التطور الفكري ومواجهة تحديات كل عصر وكل بيئة بما يناسبها من الحلول المنطقية الصحيحة باستخدام قواعد استنباط الأحكام خدمة للمجتمع الإسلامي
وعلى الدعاة أن يكونوا عصريون ملمون بأحداث العصر وما المانع أن يكون الخطيب متابعا للدوري الإنجليزي أو الأسباني لكرة القدم ؟ وما المانع أن يكون الخطيب ملما بالسياسة والثقافة والأدب ؟ وما المانع أن يكون الخطيب ملما بعدة لغات وأن يكون ماهرا في الطب والهندسة وأن يكون إضافة إلى ثقافته الدينية قارئا للروايات والقصص القصيرة والمسرحيات ويعلم عن أحدهم اسمه مايكل جاكسون ؟ إن المسلمين لو أخذوا بهذه العلوم والثقافات وعرفوا لغة العصر وأدواته لانطبق عليهم قول الحق سبحانه { كنتم خير أمة أخرجت للناس }و
No comments:
Post a Comment