زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
1
عنوان مقالي هذا مقتبس من مقال كتبه يوسي ميلمان في جريدة هاآرتس الإسرائيلية يوم 6/8/2009 حول الجولة التي قام بها أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي لخمس دول إفريقية مستهل الشهر الماضي هي إثيوبيا ونيجيريا وغانا وأوغندا وكينيا بعد زيارة مماثلة قام بها لأربع دول من أمريكا الجنوبية في إشارة واضحة إلى الاهتمام الذي كانت تبديه جولدا مائير وزيرة خارجية إسرائيل ورئيسة وزرائها فيما بعد للقارة الأفريقية وما تمثله هذه القارة من أهمية بالغة لإسرائيل.
لقد جاءت زيارة ليبرمان لقارتي أمريكا وأفريقيا محاولة لإعادة إسرائيل إلى مكانتها الغابرة هناك بعد غياب سنوات طويلة عن القارتين زادت عن 20 عاما وهي الزيارة التي وصفها ليبرمان نفسه بعد زيارة أمريكا الجنوبية زار خلالها البرازيل والأرجنتين وبيرو وكولومبيا إن هذه الزيارة كانت الأولى منذ 23 عاما التي يقوم بها وزير خارجية إسرائيلي للبرازيل إحدى الدول الكبرى الصناعية والمهمة في العالم والتي تمتلك قدرات نووية مهمة وتبذل في السنوات الأخيرة جهودا من أجل تعزيز علاقاتها مع إيران.
2
تعتبر زيارة ليبرمان لأفريقيا هي الأولى منذ زيارات جولدا مائير لها قبل 50 عاما حيث كانت القارة السوداء أحد الأهداف المهمة للسياسة الخارجية الإسرائيلية وهي الدولة الوليدة حينها وكانت لم تفطم من الرضاعة بعد ولكن بعد نظر القيادة الإسرائيلية كان واضحا منذ اللحظات الأولى لقيام هذا الكيان وقد استغلت إسرائيل ذلك جيدا حيث قدمت الدعم الزراعي والتقني للدول الإفريقية وأرسلت المستشارين والمدربين واستوعبت الطلاب الأفارقة وأمدت الدول الإفريقية بالسلاح وبالمستشارين العسكريين.
ويقول يوسي ميلمان إن إسرائيل استفادت من صناديق استثمارية سرية تابعة لـ سي.آي.ايه ووجهت من خلال جمعيات اختصاصية أمريكية بتمويل أنشطة من أنواع مختلفة في أفريقيا مما أتاح توطيد الوجود المهم لممثلي الموساد في أرجاء القارة السوداء أمثال دافيد كيمحي (وهو مهندس مهمة الإطاحة بالوجود العماني في زنجبار) ورؤوفين مرحاف وناحوم أدموني الذين خطوا في الموساد خطواتهم الأولى عبر القارة السوداء.
لقد جاءت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي لأفريقيا لتعيد السياسة نفسها التي قامت بها جولدا مائير بهدف تطويق العرب وخاصة مصر التي تعتمد في حياتها على نهر النيل الذي يأتيها من داخل القارة السمراء إذ تعتبر دول القرن الأفريقي اثيوبيا وكينيا والسودان مهمة بصورة استثنائية لإسرائيل وهي تشرف على مسارات الإبحار نحو إسرائيل وقريبة من مصر واليمن والسعودية مما يعني أن الاعتبار الأمني بالنسبة لإسرائيل كان أيضا مبررا لعناصر الموساد والمستشارين العسكريين في الجيش الإسرائيلي للتدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة الإفريقية وهو ما أشار إليه يوسي ميلمان في مقاله المذكور ذلك حيث قال إنه من خلال تقارير مختلفة ترددت أسماء بعض ضباط الموساد كمتورطين في انقلابين على الأقل في كل من زنجبار وأوغندا (وهو يقصد حتما الانقلاب الذي أطاح بالجنرال عيدي أمين رئيس أوغندا الذي انقلب على إسرائيل وبريطانيا وأيد القضايا العربية بشدة وقطع علاقات بلاده بإسرائيل في فترة مبكرة من حكمه) كما أن انقلاب زنجبار معروف وهو الانقلاب الذي أطاح بالوجود العماني في الشرق الأفريقي والذي تناوله باستفاضة الكاتب ناصر بن عبد الله الريامي في كتابه ( زنجبار – شخصيات وأحداث ) وقدم معلومات قيمة عن ذلك الدور.
وعندما نقول إن ليبرمان قد انتعل حذاء جولدا مائير في زيارته لأفريقيا لا بد أن نوضح أنه قد انتعل فقط قياس الحذاء ولكنه حذاء جديد يواكب متطلبات العصر فهو الذي قال إن هدفه من تلك الزيارة كان إبراز الوجود الإسرائيلي في القارة وإنه قال للقادة الذين التقى بهم إن أفريقيا مهمة لإسرائيل ومن المحظور إهمالها خصوصا بسبب مساعي دول مثل إيران للتأثير هناك وترسيخ مكانتها، وقال إن الزيارة ستوفر دعما سياسيا للأنشطة السياسية والاقتصادية القائمة أصلا ، وهو يعني أن نتائج زيارته لأفريقيا لن تقتصر فقط على بيع السلاح بل ستتعدى ذلك إلى إقامة ودعم المشاريع ذات الطابع المدني في الزراعة والتعليم والصحة والإعلام والبنى الأساسية مما يتبع ذلك أيضا الاستفادة من الثروات الطبيعية التي حباها الله للقارة كالمعادن والنفط والأخشاب والمنتجات الزراعية وغيرها وهذه بالتأكيد هي السياسة الناجحة جدا بدلا من السياسة التي طبقتها جولدا مائير عندما جعلت من إسرائيل طرفا مركزيا في بيع السلاح الإسرائيلي فقط لدول القارة واعتمدت في ذلك على ضباط الموساد.
3
على المستوى الشخصي - رغم كرهي الشديد - لا أملك إلا أن أنحني للقيادة الإسرائيلية إعجابا واحتراما على إخلاصها وولائها وعلى إيمانها بقضية إسرائيل رغم أن القضية ليست عادلة وأن وجود إسرائيل نفسه ضد المنطق بمعنى أنها تتصرف وكأنها صاحبة حق أو أنها على حق ولها عذرها في ذلك بعدما تخلى أصحاب الحق عنه وهم العرب ، ( استطراد بسيط : قد يأتي أحد القراء ويترك الفكرة العامة للمقال ويركز فقط على نقطة الإعجاب هذه وكأنها هي القضية الحقيقية، ولنعد إلى المقال) فأفيجدور ليبرمان قصد من زيارته لإثيوبيا وأوغندا وكينيا تطويق مصر في حرب تسمى حرب مياه، وهي الحرب الجديدة المتوقعة في المنطقة فهذه الدول تعتبر المصدر الرئيسي لمياه النيل التي تعطي الحياة لدولتين عربيتين هما مصر والسودان ، وقد سمعت باسم ليبرمان للمرة الأولى عندما نشر مقالا قبل عدة سنوات في إحدى الصحف الإسرائيلية تساءل فيه ما هي مصر ؟ فرد على السؤال بأن مصر هي السد العالي ! وقال ماذا سنفعل به ؟ فرد إننا سندمره بقنبلة واحدة.
ومن هنا فإن زيارة ليبرمان لأفريقيا جاءت لتصب في اتجاه التضييق ومحاصرة مصر مائيا بعد أن شهدت السنوات الأخيرة غياب الدور المصري من القارة الأفريقية التي تعتبر العمق الأمني والاستراتيجي والغذائي لمصر مما أدى بنا أن نسمع مطالبات علنية بتعديل اتفاقيتي 1929 و1959 لتوزيع مياه النيل خاصة الشق المتعلق منهما بإعطاء مصر حق الفيتو على أي مشاريع سدود في أي من دول المنبع وهو ما تحدته إثيوبيا بعزمها إقامة أكبر السدود على أراضيها مما سيؤثرعلى نسبة المياه المقررة لمصر ورفضت بالتالي الاتفاقيتين المذكورتين باعتبار أن 86 % من مياه النيل تأتي من مرتفعاتها، ولقد قامت الحكومات المصرية المتعاقبة من أيام محمد علي باشا بتقوية النفوذ المصري في القارة السوداء خاصة دول حوض النيل ووضعت خطة طوارئ للتدخل عسكريا ضد أية دولة يمكن أن تشكل أي خطرعلى تدفق مياه النيل ، وقام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتطويق إسرائيل في القارة الأفريقية وضيّق عليها الخناق ، و يحسب للرئيس الراحل أنور السادات أنه وضع خطة طوارئ عام 1979 عندما أعلنت اثيوبيا عن نواياها بإقامة سد لري 90 ألف هكتار في حوض النيل الأزرق وهدد بتدمير هذا السد وعقد بالفعل اجتماعا طارئا لقيادة هيئة أركان جيشه لبحث هذه المسألة مما أدى إلى إيقاف بناء السد وتوقفت إثيوبيا عند حدها أمام دولة كانت عظمى بحجم مصر ، والآن بعد 30 عاما ها هي إثيوبيا تهدد بإقامة السد ويصرح وزير الري الأثيوبي أنه لا توجد قوة في العالم تستطيع أن توقف بلاده عن بنائه فالمياه مياهها ولا حق لأحد بأن يملك الفيتو ضد مشاريعها ! وقد جاء الاعتراض الأثيوبي لأن مصر تستثمر وحدها 55,5 مليار متر مكعب من مياه النيل سنويا في حين أن السودان تحصل على 18,5 مليار متر مكعبا سنويا أما باقي دول الحوض فتحصل على حوالي 10 مليارات فقط من المياه ، حيث يشير الكاتب والباحث أحمد صلاح في جريدة الموجز المصرية أن خبراء المياه والري حددوا تلك الحصص بناء على عوامل كثيرة مثل مساحة الدولة وعدد السكان ونوع التربة وطبيعة الجو من مطر وحرارة وغيره وخلصوا إلى إعطاء مصر حق الفيتو على أي مشروعات على مجرى النهر باعتبارها الدولة البعيدة عن المنابع ولطبيعتها الصحراوية وقلة الأمطار فيها مقارنة بدول الحوض الأخرى.
4
من حق إسرائيل أن تفعل ما تشاء وأن تقيم علاقات عسكرية واقتصادية وأمنية وسياسية مع من تريد طالما أن العرب رضوا بالمهانة وناموا على العسل، فالقارة الأفريقية قارة مهمة جدا للعرب بثرواتها الطبيعية وبقربها الجغرافي وبمصادرها المائية التي تعتبر مسألة حياة أو موت لمصر والسودان، وقد كانت أيام جمال عبد الناصر قارة تتبع النفوذ المصري وكان السفير المصري في أية دولة أفريقية هو الحاكم الفعلي لها وقد عاشت تلك الدول على المساعدات والمعونات المصرية رغم ضيق اليد واعتمدت الدول الإفريقية على المنح الدراسية وعلى الخبراء الزراعيين المصريين وعلى المدرسين المصريين وكذلك على الأزهر الشريف ، أما الآن فإننا نرى أن القيادة المصرية تغيب حتى عن القمم الأفريقية والعربية ، وهذا بدوره أعطى إسرائيل الحرية في أن تتصرف كيفما تشاء وتضيّق الخناق على مصر وعلى العرب.
يرى عبد الباري عطوان رئيس تحرير القدس العربي اللندنية أن التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا يستهدف مصر ومستقبل أجيالها ويستهدف ضربها في خاصرتها الموجعة أي مياه نيلها ولكن المحيّر - كما يرى - أن الحكومة المصرية منشغلة بمعبر رفح وخلية حزب الله والخطر الإيراني المزعوم.
ونقل عبد الباري عطوان عن المحللين الأفارقة أن إسرائيل عرضت عليهم خبرات زراعية ووعوداً بمساعدتهم للحصول على منح مالية أمريكية وأوروبية لما لها من نفوذ كبير هناك وفوق هذا وذاك أسلحة حديثة ومتطورة وخبراء يتولون تدريب جيوشهم على حروب العصابات (وتساءل ماذا عند العرب لكي يقدموه غير الفساد والتخلف والهزائم ؟! ).
إننا كعرب لم يعد لدينا ما نقدمه غير الخبرات العريقة في إهدار الثروات النفطية الهائلة والخنوع للأعداء والتآمر على بعضنا البعض
فهل لنا أن نلوم إسرائيل بعد ذلك ؟
No comments:
Post a Comment