زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عماني
" 1 "
فقدت مصر والعرب يوم السبت 31/10/2009 اثنين من أبرز رجالات الفكر ، الأول هو العالم والمفكر الشهير د. مصطفى محمود والثاني هو الأستاذ أمين هويدي رئيس جهاز المخابرات المصرية ووزير الحربية الأسبق عن عمر واحد هو 88 عاماً.
غابت مصر الرسمية عن تشييع د. مصطفى محمود فيما كان الحضور الأعظم من المشيعين من الطبقات الفقيرة التي عاش لها ولأجلها وأنشأ عام 1979 مسجده في القاهرة المعروف بـمسجد مصطفى محمود ويتبع له 3 مراكز طبية تهتم بعلاج الفقراء وذوي الدخل المحدود ويقصدها الكثير من أبناء مصر نظرا لسمعتها الطيبة كما أنه شكل قوافل للرحمة من 16 طبيبًا وله مركز يضم 4 مراصد فلكية ومتحفا للجيولوجيا يقوم عليه أساتذة متخصصون.
وقد اشتهر د. مصطفى محمود مفكرا وكاتبا وأديبا وطبيبا وكثيرا ما أثارت أفكاره ومقالاته جدلا واسعا وقد ترك 89 كتابا ، وتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة والرشاقة والقدرة على تقريب الأفكار والنظريات العلمية المعقدة إلى عامة الجمهور وخصوصا من خلال برنامجه الشهير العلم والإيمان الذي قدمه التليفزيون المصري في 400 حلقة وبثته العديد من القنوات العربية على مدار عقود وحظي بنجاح غير مسبوق.
أما أمين هويدي فقد كان عضواً في تنظيم الضباط الأحرار ويعتبر الشخص الوحيد الذي جمع بين منصبي رئاسة المخابرات العامة المصرية ووزارة الحربية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .
" 2 "
يعتبر الراحل أمين هويدي رمزا وطنيا عربيا بما يحمله من فكر قومي عسكري وسياسي ونظرا للمناصب التي تولاها في فترة مهمة جدا من تاريخ مصر والأمة العربية مما يؤكد أهميته ومدى الثقة التي حظي بها لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو الذي عمل جاهدا على إعادة بناء الجيش المصري من جديد وعلى تأهيله وهو الذي خاض بعد ذلك حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 73 ، وقد عاش أمين هويدي دون أن يجرح أحدا من زملائه ولم ينسب لنفسه بطولة لم يفعلها كما أنه معروف بالنزاهة الشخصية والمالية وفي عهد الرئيس الراحل أنور السادات تم اعتقال أمين هويدي في الأحداث التي جرت في 15 مايو 1971 واعتقل مع 91 شخصا آخرين بتهمة الخيانة العظمى وحوكم ثم وضع تحت الحراسة والإقامة الجبرية أكثر من 10 سنوات تفرغ خلالها وبعدها للعمل الفكري والبحث والتأليف والكتابة.
وقد اعتبرالبعض اعتقالات مايو 71 بمثابة انقلاب على المشروع الناصري حيث تم خلالها اعتقال بعض القيادات الناصرية فيما اعتبرها الرئيس السادات حينئذ ثورة تصحيح لقد حصل أمين هويدي على مؤهلات علمية كثيرة من أبرزها بكالوريوس في العلوم العسكرية من الكلية الحربية المصرية ، وماجستير العلوم العسكرية من كلية أركان حرب المصرية ، وماجستير العلوم العسكرية من كلية القيادة والأركان الأمريكية وهي أرقى كلية قيادة يدخلها أجنبي من أبوين غير أمريكيين وماجستير في الصحافة والترجمة والنشر من جامعة القاهرة ، وبجانب المؤهلات الكثيرة السابقة شغل هويدي أيضا العديد من المناصب العسكرية ، حيث عمل مدرسا في الكلية العسكرية وأستاذا في كلية الأركان ورئيسا لقسم الخطط في العمليات العسكرية بقيادة القوات المسلحة ، كما وضع خطة الدفاع عن بورسعيد وخطة الدفاع عن القاهرة إبان العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956.
لقد ترك أمين هويدي – الذي تفرغ للعمل الفكري – ترك رصيدا كبيرا من الكتب والمؤلفات بلغت 25 مؤلفا باللغة العربية والإنجليزية بالإضافة إلى الكتابة في عدد من الصحف من أبرزها الأهرام والأهالي والتي كتب فيها منذ العدد الأول حتى دخوله المستشفى ، ومن أبرز مؤلفاته : ( كيف يفكر زعماء الصهيونية ) و ( الفرص الضائعة ) و ( 50 عاما من العواصف : ما رأيته قلته ) وهو عبارة عن شهادته للعصر والأحداث التي عايشها في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وكتاب ( حرب 1967: أسرار وخبايا ) ، وقد كتبت عنه صحيفة معاريف الإسرائيلية يوم 2/11/2009 أنه في فترة رئاسته لجهاز المخابرات تم اكتشاف 53 عميلا لإسرائيل في مصر قدموا للمحاكمة في 30 قضية تجسس تم إعدام 19 منهم فيما حكم على الآخرين بالسجن تحت عنوان رجل أمين ، كتب صلاح منتصر في جريدة الأهرام أن أمين هويدي رحمه الله كان رجلا محترما أمينا في أداء ما يؤمن به وما يعهد به إليه وإن هزيمة 67 كانت من الموضوعات التي تناقشنا فيها طويلا ولعل هذه المناقشات كانت وراء آخر الكتب التي أصدرها عام 2006 عن أسرار وخبايا الحرب وكان كثيرا ما يقول لي إنه ذاهب بعد المكالمة ليتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستأنف كتابة فصول الكتاب ، ورغم ذلك يقول صلاح منتصر فقد اختلفت معه وتقبل اختلافي حول مسئولية جمال عبد الناصر، فهو كما اعتبر في الكتاب أن عبد الحكيم عامر هو المسؤول الأول سياسيا وعسكريا عن الهزيمة لأنه كان على حد تعبيره يرتدي قبعتين في وقت واحد إحداهما بصفته نائب رئيس الجمهورية وهذا منصب سياسي جعله أهم عضو في اللجنة التنفيذية العليا للنظام والمسؤول عن لجان تصفية الإقطاع وعن القطاع العام وعن السد العالي وعن النقل العام ، والقبعة الأخرى عسكرية باعتباره نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة وكان رأيه أن عبد الحكيم عامر ومعاونيه القادة العسكريين إما أنهم لم يصارحوا عبد الناصر بالحقيقة التي كان عليها الجيش وهذه مصيبة أو أنهم قبلوا دخول حرب يعرفون إمكانياتهم فيها وسكتوا وهذه مصيبة أكبر .
وكتب صلاح منتصر يقول كان اختلافي مع أمين هويدي أن المصيبة الأكبر من كل ذلك هي أن يكون عبد الناصر في انتظار أن يعرف حقيقة الوضع في جيشه في ذلك الوقت في مايو67 وكأنه كان متغيبا عن مصر ثم وصل بعد غياب وبدأ يسأل ويعرف عن أحوال الجيش!
" 3 "
بما أني من محبي د. مصطفى محمود ومن متابعي أمين هويدي ومعجب بفكره لذا كنت مهتما بمتابعة تغطية وسائل الإعلام العربية لخبر وفاتهما ولكيفية تشيعيهما ، ويبدو أن هناك كثيرين اهتموا بهذه النقطة إذ وجدت ضالتي في مقال كتبه عاطف عبد الغني وبه ربما نفس تساؤلاتي يقول عاطف حين طالعت في يوم واحد خبري وفاة د. مصطفى محمود وأمين هويدى سألت نفسي من منهما كان يستحق خبره أن يبرز أكثر أو يسبق الآخر؟
والحقيقة - كما كتب - لم أهتم كثيرا بالإجابة ولم أتوقف كثيرا أمام السؤال لكن مايكل كولينز دن ويعمل محللا في معهد الشرق الأوسط وهو معهد معني بالمنطقة وأحداثها سأل السؤال نفسه وأجاب عليه بعد أن وجه المسألة كلها لتخدم هدفا محددا ، فقد سأل في مقال تحت عنوان ( من منهما أكثر أهمية لمصر على المدى الطويل المخابرات أم محمود ؟ ) وبعد العنوان سأل المحلل الأمريكي من هو مصطفى محمود ؟
وملخص إجابته أنه صاحب أكثر من مائة كتاب إسلامي معروضة على أرصفة القاهرة تباع بأسعار زهيدة وهو أيضا نجم برنامج العلم والإيمان ومنشىء مسجد ومستشفى مصطفى محمود وهو واحد من الأمثلة البارزة لهذا النوع من الخدمات الاجتماعية الإسلامية .
يقول الكاتب الأمريكى إنه من المستحيل أن تتجول ببصرك اليوم في القاهرة دون أن تلاحظ انعكاس آثار د. مصطفى في أسلمة الفضاء العام والخطاب المصري العام والاستخدام الإسلامي الخلاق لكل وسائل التكنولوجيا الحديثة .
وفى النهاية يسأل الكاتب الأمريكي بني جلدته الأمريكان الذين يحاولون صياغة علاقة جديدة مع العالم الإسلامي ويبحثون عن شراكة استراتيجية معه كيف يمكن أن يستجيبوا للعالم الذي ساهم في تشكيله د. مصطفى محمود ؟ لكنه يسبق سؤاله هذا بسؤال آخر مَن منْ الرجلين : رجل المخابرات هويدي أم رجل الإعلام محمود كان له التأثير الأكبر على مصر والشرق الأوسط ؟
ومعنى السؤال والمقال أن د. مصطفى محمود الذى ساهم في " أسلمة " الشعب المصري والعربي له التأثير الأكبر، ومسألة الأسلمة هذه هي القلق الذى يقض مضاجع الآخر الآن يريد مايكل كولينز دن بمقاله ذلك أن يثبت خطورة الفكر الذي يحمله د. مصطفى محمود والأسلوب الذي اتبعه في استغلال وسائل الإعلام لما أسماه مايكل بأسلمة الشعب العربي عن طريق الربط بين العلم والإيمان.
ولعل المقصود بكلمة الأسلمة هذه هي مواقف الدكتور من إسرائيل والصهيونية حيث أشار ابنه أدهم مصطفى محمود في لقاء مع وائل الأبراشي في قناة دريم من خلال برنامج الحقيقة أن والده دخل نوبة حزن شديدة واعتلت صحته بعد رسالة كتبها أسامة الباز مدير مكتب رئيس الجمهورية للشؤون السياسية عام 1994 لإبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام وقتها ينتقد فيها مقالا للدكتور مصطفى محمود عن إسرائيل مما أثار استياء القيادات الإسرائيلية والمنظمات اليهودية " المعادية للتشهير" وطالب الباز من إبراهيم نافع لفت نظر د. مصطفى محمود إلى حساسية الكتابة في هذه الموضوعات وأن تأثيرها لا يقتصر على الإسرائيليين فقط بل على اليهود عامة ، وقد عبرت الرسالة - كما يقول أدهم مصطفى محمود – عن توبيخ سياسي واضح من الدولة لم يقتصر فقط على كتابات الراحل بل امتد إلى الاعتراض على محتوى ومضمون برنامجه ( العلم والإيمان ) مؤكدا أن إسرائيل لعبت دورا رئيسيا في توقف عرض البرنامج .
ويرى وليد عرابي في جريدة الميدان عدد هذا الأسبوع أن إسرائيل يبدو أنها لم تنس أو تغفر للدكتور مصطفى محمود أنه أول من بشّر بزوالها رغم أن كل الشواهد تؤكد عكس ذلك لا سيما وكثير من العرب يهرولون تجاهها ، وكان رحمه الله مصرا على أن هناك أدبيات كثيرة معظمها يستند إلى أدلة دينية تؤكد حتمية زوالها .
" 4 "
ولكن سواء كان الرأي أن فكر الدكتور مصطفى محمود أقوى وأخطر من فكر أمين هويدي رحمهما الله إلا أن ذلك لا ينفي القيمة الكبيرة التي حملها الفكر الاستراتيجي للراحل أمين هويدي فقد كان مفكرا وكاتبا استراتيجياً ومتحدثاً صريحاً لا يعرف المجاملة أو المراوغة فكان لإسهاماته في الفكر العسكري والاستراتيجي العربي أبلغ الأثر في تصويب مسارات وتصحيح رؤى من خلال تعبيره عن إرادة الانتصار والإصرارعليها في أحلك أوقات المحن والشدائد وإيمانه الشديد بقدرات الأمة رغم أن الأمة في سبات عميق .
إن أمين هويدي ومصطفى محمود رحمهما الله يذكرانا بالزمن المصري والزمن العربي الجميل ولكن هل من بديل ؟!
منشور في جريدة الشبيبة في 10 نوفمبر 2009م
No comments:
Post a Comment