أحمد الهنائي
صحفي عماني
يرن هاتفي وأنا غارقٌ في زحمة العمل، أنظر إليه، فيبرز أمامي “عبدالله يتصل بك” أجيب بامتعاض: إنني مشغول، وسأتصل بك ريثما أنتهي. فيجيب عبدالله بنبرةٍ لم أكن أعي كنهها: لكنني أريدك في موضوعٍ مهم يا أحمد، وبي من الهمِّ ما الله وحده عالمٌ به، أريد أن أبثّك ما بداخلي، علّك تسري عن نفسي، وتطرد الوحشة والضيق اللذين يكتنفانني، فقد برَّح بي الهمُّ وأمضّني، فواعدته بلقاءٍ في مساء الغد، وحسب الاتفاق انتظرته بضع دقائق في مجمع العريمي، لكنه لم يأت، كررت الاتصال مراراً، فلم ألقَ جواباً، حادثت صديقنا سالم، وليتني لم أفعل، فقد كان قافلاً لتوه من جنازة “عبدالله”. يال الندامات، فقد رحل “عبدالله” عن عالمنا، وهو يمني النفس بأن ألتقيه، وأقضي له بحق الصحبة وتطارح الهمَّ والشكوى، فأي شعورٍ أقسى من أن يخذل الصديق صديقه وقد شعر به وهو يعالج في نفسه ألماً ممضاً، لهي مرارةٌ تفلق الصخر الأصم.
ليتنا نخصص بعضاً من وقتنا لمن نحب، ولا نبخل عليهم بأبسط مما يستحقون، فقد يأتي يومٌ لا نستطيع فيه تقديم أي شيءٍ لهم، فنعضّ أصابع الندم، ولات ساعة مندم. في أحيانٍ كثيرة نثور على من نحب في لحظة غضب، فننسى كل ما قدمه له، وما يحمل في داخله من مشاعر وحبٍ وتضحيات.
في إحدى مؤسسات العمل، يعيب الشاب على خطيبته، أنها تتحدث بصوتٍ عالٍ، فذاك يغضبه، فيدور بينهما حوارٌ حاد، تتعالى فيه الأصوات أمام مرأى ومسمع زملائهما، فيجد نفسه أمام حرجٍ شديد، فيقرر الخروج غاضباً، قائلاً لها:”سأغرب عن وجهك، علّكِ تجدين في ذلك راحتك” فما كان منها إلا أن ردت وهي من دون وعي :”روح، عساك ما ترجع” عيون الزملاء تنظر إليهما بخجلٍ شديد، وكان يجدر بهما أن يتمالكا أعصابهما، ولا تدور مثل تلك الحوارات في أماكن العمل، وبعد أربع ساعاتٍ أو يزيد، تناقل الزملاء الخبر، بأنه لن يرجع للعمل من جديد، ولن يعود إليها ، فهو لم يقرر ترك العمل فقط، ولا فراق خطيبته، بل رحل عن عالم الجميع، وذهب إلى لقاء ربه، وتحققت دعوة الخطيبة فأخذتها الرعدة، وباءت بالخسار، غلت مراجل حسرتها فجاش جأشها، وأهرقت قطرات دموعها.
في الوقت الذي يعود فيه “يحيى” إلى منزله، بعد يومِ مضنٍ من العمل، تتلقفه زوجته، بمطالبها التي لا تنتهي، وقبل أن يحتضن ابنته “دعد” ترسل إليه والدته، لومها الشديد، فهو لم يعد يتصل بها يومياً مثل السابق، وما أصبح يحفل بمتابعة حالتها الصحية التي بدأت تسوء، فيمتعض، من عتاب أمه الدائم، وصراخها المستمر له، فيشعر بالاختناق، ذلك أن ضغوط الحياة كلها تجتمع عليه، حتى أمه الحنون، أصبحت لا تتهاون في أي تقصيرٍ يبدر منه، ومع ذلك، فهو لا يحاول أن يمنحها بعضاً من اهتمامه ووقته، متحججاً بضيق الوقت وكثرة المشاغل. وحينما هاتفته عمته بوفاة أمه، اجترع الغصة وبكى بدمعٍ هتون، وتمنى لو أنها تعود إلى الحياة ويقوم على خدمتها كل وقته.
فعلامَ، نهمل أحبتنا، ونتذكر تقصيرنا معهم بعد رحيلهم؟ لمَ لا نبادر ونهتم لأجلهم، وهم أحياء؟! فلا تدعوا الحياة تلهيكم عن ذكر من تعزون، واقضوا لهم بحقهم من العناية والزيارة والمشاركة في الأفراح والأحزان، وليعذرني من سردت قصّته، فالغاية ما كانت سوى الاستفادة منها، واستنباط العِبر.
منقول في 7 يوليو 2011م من
No comments:
Post a Comment