العَشْر الأواخر مِن رمضان تتميّز بِفضائل كثيرة وكذلك ليلة القدر، نريد أن نعرف هذه الفضائل، وكيف يُمكِن لِلمسلم أن يتحرّى فيها ليلة القدر ؟
إنّ الله تبارك وتعالى اقتضَت حكمتُه تفْضيلَ بعضِ مخلوقاتِه على بعض، مِن أيِّ جِنْس مِن الأجناس، فهو يُفَضِّلُ بعضَ البشر على بعض، ومِن البشَر الذين فُضِّلُوا رسلُ الله ، وهم أيضا فُضِّلَ بعضُهم على بعض، وكذلك فَضَّلَ الله سبحانه وتعالى بعضَ البلدان على بعض، وبعضَ الأمْكِنة على بعض ، و هكذا فَضَّلَ بعضَ الأزْمِنة على بعض، ومِن الأزْمِنة التي فَضَّلَها شهرُ رمضان المبارك بِكلِّ لياليه وبِكلِّ أيامه، ثم إنَّ أيامَ رمضان وليالِيَه أيضا فُضِّلَ بعضُها على بعض، ومِمّا فُضِّلَ العشْرُ الأواخر مِن رمضان .. فُضِّلَت العشْرُ الأواخر بِما أنها مَظِنَّةُ هذه الليلةِ المباركة .. مَظِنَّةُ ليلةِ القدْر، التي هي خير مِن ألف شهر.
وقد فُضِّلَت ليلةُ القدْر على جميع الليالي العشْر وليالي رمضان بِأسْرها وعلى جميع أيام العام ولياليه، فهي بِنَصِّ القرآن الكريم خير مِن ألف شهر، وقد أنزل الله تبارك وتعالى فيها سورةً بِأسْرها تدلّ على مكانتها وعِظَمِ شأنها وجلال قدْرها .. يقول الحق سبحانه ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة القدر) ، نعم ، هذهِ الليلةُ المبارَكَة هي خير مِن ألف شهر، وهي الليلة التي سماها الله تبارك وتعالى الليلةَ المباركة في قوله ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان:3-5) ، وتسميتُها بِليلةِ القدْر إما لِعلوِّ قدْرها وعِظَمِ شأنها وإما لِمَا يُقْدَرُ فيها مِن الأمور، فقد قيل بأنّ الله تبارك وتعالى يَكتُب فيها ما يكون في سائر العام.
ومهما يَكن فإنّ فَضْل هذهِ الليلة فَضْلٌ يَفوقُ الوصْف ويَفوتُ المدارِك، والله سبحانه وتعالى بيَّن هذا الفضْل العظيم في هذه السورة المبارَكَة، التي سُمِّيت ( سورة القدْر ) والتي فيها الحديث عن هذه الليلة وعن علوِّ قدْرها وعِظَمِ شأنها، وهي بِالطَّبْع إحدى ليالي رمضان، لأنّ هذهِ الليلة هي ليلةُ نزول القرآن على قلْب النبي صلى الله عليه وسلّم مع أنّ الله تعالى قال في شهر رمضان المبارَك ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة: من الآية185)، ولئِن كان شهرُ رمضان نَزَلَ فيه القرآن الكريم وكان نزوله في ليلة القدْر فإذن هذهِ الليلةُ المبارَكَة هي إحدى ليالي هذا الشهر الكريم، وإن كان العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا، على أكثر مِن أربعين قولا، حتى أخرجَها بعضهم عن شهر رمضان رأسا، وهؤلاء قالوا في قول الله تعالى ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(البقرة: من الآية185) أي أُنْزِلَ في بيان فَضْلِه وقَدَرِه وشأنِه ووجوبِ صومِه؛ وهذا القول هو بعيد، لأنّ السياق يَقتضي خلافَ ذلك، ولأنّ النصوص النبوية-أيضا-تدلّ على خلافه ، فالأحاديث الشريفة المروية عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام تدلّ على أنّ ليلةَ القدْر هي إحدى ليالي شهر رمضان المبارَك.
وقد يَتساءَل الإنسان: كيف يَكون إِنْزال القرآن في هذهِ الليلةِ-أي ليلةِ القدْر-مع أنّ القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضان وفي غيره في ظَرْفِ ثلاثٍ وعشرين سنَة نزل بعضه في السفر وبعضه في الحضر وبعضه في المدينة وبعضه في مَكّة وبعضه نزل خارج المدينة ومَكّة عندما يكون النبي صلى الله عليه وسلّم في غزواته وفي أسْفاره ونزل أيضا القرآن الكريم في حالة السِّلْمِ وفي حالة الحرْب ونزل في وقت الصيف وفي وقت الشتاء فهو غير مُنْحَصِرِ النزول في وقتٍ معيّن فكيف يُقال بِأنه أُنْزِلَ في ليلة القدر ؟ والجواب:
- 1-مِن العلماء مَن قال بِأنّ إنزال القرآن في ليلة القدر يعني بدايةَ إِنْزالِه على قلب النبي صلى الله عليه وسلّم ، إذ بداية نزول القرآن عليه وهو في غار حراء كانت في شهر رمضان المبارك في هذه الليلة المباركة.
- 2-ومِن العلماء مَن قال بأنّ نزول القرآن كان أوّلا مِن اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة في سماء الدنيا وكان ذلك في ليلة القدر وتلقّاه جبريل مِن الحفظة ثم إنّ جبريل نزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهذا مروي عن حَبْر الأمّة ابن عباس رضي الله عنهما.
- 3-ومِن العلماء مَن ذهب إلى أنّ القرآن الكريم نَزَلَ في ثلاثِ وعشرينَ ليلةِ قَدْر .. أي كان الله تعالى ُنْزِلُ إلى سماء الدنيا ما يُقَدِّرُ إنزاله في سائر العام، والذي يَنْزِلُ مِن اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة في سماء الدنيا إنما كان يَنْزِلُ في ليلة القدر في كل عام وذلك بِقَدْرِ ما يَنْزِلُ في سائر العام، ولعلّ القول الأول أقربُ إلى الصحّة وأظهرُ، وإن كان القول الثاني مرويا عن حَبْرِ الأمّة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وهذه الليلة المباركة النبي صلى الله عليه وسلّم أُرِيَها وعرفها وارتَسَمَت في ذهنه وخرج لِيُخبِر بها أمّته فتلاحى رجلان مِن أمّته فرُفِعَت أي رُفِعَ عِلْمُها وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( وعسى أن يكون ذلك خيرا ) ، ويرجو بذلك أنّ الله تبارك وتعالى يَكتُب لهذه الأمّة الخير بِرَفْعِ هذه الليلة أي بِرَفْعِ عِلْمُها-لِما يُسَبِّبُه ذلك مِن اجتهاد الأمّة في إحياء ليالي رمضان المبارك، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال : ( فالتمِسوها في العشْر الأواخر والتمِسوها في كل وتر )، ومعنى ذلك أنّ الإنسان يُؤمَر أن يَلتمِس هذه الليلة المباركة في العشْر الأواخر مِن شهر رمضان المبارك بحيث يجهد في العبادة في هذه الليالي المباركة ولاسيما الليالي الأوتار، وهي ليلة الحادي والعشرين وليلة الثالث والعشرين وليلة الخامس والعشرين وليلة السابع والعشرين وليلة التاسع والعشرين.
ومِن العلماء مَن ذهب إلى أنها هي قبل العشْر الأواخر، وهؤلاء قولهم مرجوح، بِدلالة الحديث الشريف، ومنهم مَن قال بأنها لا تثبت على حال فإنها قد تَختلِف بين عام وآخر ففي عام تكون مثلا في ليلة الحادي والعشرين وفي عام تالٍ تكون في إحدى الليالي الأوتار الأخرى بِحيث لا تكون ليلةً معيّنةً في كل عام.
هذه الليلة جعل الله تعالى شأنها شأنا عظيما ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)،.. يَستمِر خيرُها إلى طلوع الفجر، وفي قوله تعالى: (… حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) ما يُؤذِن بأنّ القول الصحيح هو أنّ فضل هذه الليلة يَنقطِع بِطلوع الفجر وأنه لا يَستمِر في يومها-أي في اليوم التالي-وإنما ينتهي بانتهاء الليل .. هذا هو القول الصحيح، وإن كان مِن العلماء مَن ذهب إلى خلاف ذلك إلا أنّ دلالةَ القرآن تدلّ على هذا، وكفى بهذه الدلالة حجّة، ولا ينبغي أن يُختلَف مع ورود نصّ مِن القرآن الكريم على شيء، وإذا جاء نهرُ الله بَطَلَ نهر مَعقِل؛ والله-تعالى-أعلم
منقولة من جريدة عمان
No comments:
Post a Comment