الرؤية- أحمد الهنائي
القناعة والتوكل والأخذ بالأسباب من عوامل تفوقه، تبّسم ثم صمت، وعاود الكرة في الابتسام حتى برقت عيناه وقال: سأواصل طريقي بلا توقفٍ أو سأم أو كلالة، فالحياة حافلةٌ بالنجاح، ولا أزال في بداية المشوار، وشعاري الذي حفظته من أساتذتي في المدرسة منذُ مراحل الدراسة الأولى تلكم المقولة النبيلة "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس".
القناعة والتوكل والأخذ بالأسباب من عوامل تفوقه، تبّسم ثم صمت، وعاود الكرة في الابتسام حتى برقت عيناه وقال: سأواصل طريقي بلا توقفٍ أو سأم أو كلالة، فالحياة حافلةٌ بالنجاح، ولا أزال في بداية المشوار، وشعاري الذي حفظته من أساتذتي في المدرسة منذُ مراحل الدراسة الأولى تلكم المقولة النبيلة "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس".
هذا هو عبدالله بن محمد بن جمعة الهنداسي، واحدٌ مما سنتناول قصص نجاحهم في سلسلة نجاحات الشباب العماني الباحث عن وضع بصمته الخاصة في مجال عمله. فقد بدأ الهنداسي مشواره الحقيقي في الحياة بعد أن أنهى دراسته في الثانوية العامة، وجد نفسه باحثاً عن عمل، والوظيفة لا تأتي هكذا من دون سعيٍ لها، فما كان منه إلا أن التحق بمعهد التدريب الفني بالخوير يومها، متخصصاً في المجال الفني في الميكانيك والكهرباء واللحامة وغيرها.
كانت مرحلة الدراسة العملية في معهد التدريب الفني هي بداية الانضباط الجاد في حياة عبدالله، وعزمه على تعلّم صنعةٍ يكتسب منها رزقه. حرص كثيراً على أن تكون مرحلة المعهد هي الدرس الأول في فنون المثابرة في معترك الحياة، فأجاد الدراسة، وأحسن التطبيق، وتخرج من المعهد بشهادة الدبلوم.
رحلة البحث
يؤمن عبدالله ولا يزال بأن طريقه لن يكون مفروشاً بالورود، ذلك أن التحديات كبيرة، ومتطلبات المعيشة كثيرة، وفرص العمل الجيد قليلة إن لم تكن نادرة، فجاب البلاد طولاً وعرضاً يبحث ويسبر أغوار جميع الشركات ومواقع العمل، فتمنعت عليه الوظيفة، وضنّت بنفسها، وقد كان يخالها من قبل أنها أسس الكرم وينالها كل من يرغب فيها، لكنه سرعان ما أدرك أنها عزيزةٌ منيعة تترفع عن طالبيها، ولا ينالها إلا من يلعق الصبر ويجدُّ في البحث والتقصي والإخلاص في سبيل الوصول إليها.
وبعد عامٍ كامل، وجد نفسه وسط صحراء قاحلة، تلفحها السموم والهواجر من كل صوب، فرفع يديه إلى مولاه شاكراً على هذه النعمة، وأخيراً دخل عبدالله سلك العمل في إحدى الشركات العاملة بالصحراء، وظن نفسه سيعمل فنياً وفق مؤهله ودراسته، لكن أخبروه هو ورفاقه، أنهم سيعملون في البداية في مهنة "عامل" وبعد ثلاثة أشهر سيتم توفير وظيفةٍ فنيةٍ لهم، فلهج بالثناء من جديد وقال "لئن تكون عاملاً، خيراً لك من أن تكون خاملاً" وشتان ما بين العامل والخامل.
مضت الشهور الثلاثة الموعودة، فتقدم الهنداسي وزملاؤه إلى مسؤولهم يسألونه الإيفاء بالوعد، وتعينيهم في المنصب المفترض أن يكونوا فيه، فما كان من المسؤول "الهندي" إلا أن قال لهم وبلغةٍ حادةٍ وبأسلوبٍ جلف: "إن أردت العمل في وظيفتكم الحالية فأهلاً وسهلاً، وإلا فاذهبوا للبحث عن عملٍ آخر، فلا مكان لكم بيننا إلا كعمال لا أكثر". أصيب الرفاق بخيبة أملٍ كبيرة، فغادروا الشركة الصحراوية للبحث عن عملٍ آخر، فالأجر ضعيفٌ للغاية، ولا يساعد على الاستمرار. لكن عبدالله أصرَّ على التحدي ودخول المنافسة، والتحمل والصبر من أجل الظفر بالمنصب اللائق لاحقاً.
120 ريالا
نهاية كل شهر يعدَُّ عبدالله ريالاته، ويسأل نفسه هل راتبي البسيط البالغ (120) ريالا يستطيع أن تعيلني حقاً؟ وهل حرارة الشمس اللافحة في صحراء تلتهب فيها الرمال كفيلة بأن تصنع مني رجلاً جلداً؟ وهل ساعات العمل الطويلة التي تبدأ من السادسة صباحاً وتنهي في السادسة مساءً من دون توقف تكافئ راتبي الضئيل؟ وهل العمل لمدة 21 يوماً في الشهر بلا انقطاع، وفي غربةٍ عن الأهل والأصدقاء يكون نتيجته تلك المعاملة السيئة من المسؤول؟ كل تلك التساؤلات المستمرة وجدت إجابةً واحدة لدى عبدالله لا غير وهي "الاستمرار في الصبر والعمل، ولا خيار".
بعد عامين من الكفاح في صحراء يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد، نما إلى علم عبدالله أن "كارفور" سيفتتح قريباً في مسقط، فراود نفسه بالعمل فيه، وكان له ما أراد، وبعد أن قدّم أوراقه تم قبوله في مهنة "ترولي بوي" أي عامل جمع العربات، ولكنها تعتبر في نظره أفضل بكثير من الوظيفة السابقة.
لطالما تذمر البعض من زملائه الجدد من هذه الوظيفة، فثمة من ينظر لهم بنظرة الاحتقار والتقليل، إنما الفتى عبدالله كان يردد على الدوام أنه عملٌ شريف، ولا تهمه نظرة الناس له ما دام أنه يكسب رزقه من كده وعرق جبينه. اجتهد كثيراً في وظيفته، وعُرف عنه المثابرة والمواظبة والإخلاص والصبر والكفاح. في كل يومٍ ينتهي من عمله يحدث نفسه بالطموح نحو الأفضل، وما هذه المهنة إلا سلما إلى مهنةٍ أخرى أكبر وأفضل.
مشرف
بعد فترةٍ من العمل الجاد تم نقل "عبدالله" إلى وظيفةٍ داخلية تحت مسمى "ستوكر" أي مصفف أغراض، هنا بدأت تتولد لديه قناعةٌ تامة بأن الاجتهاد هو السبيل الأكثر سرعةً نحو تحقيق الحلم، وحلم عبدالله يكمن في أن تؤول إليه إدارة مؤسسةٍ كبيرة في البلد، وعاهد نفسه على تحقيق ذلكم الطموح مهما كلفه الأمر.
بعد ستة أشهرٍ من العمل في الوظيفة الجديدة، صارحه مديره بأنه مثالٌ جيد للشباب العماني المثابر، وسيعمل على ترشيحه لمنصب "سوبر فايزر ستوكر"، فشعر بسعادةٍ غامرة، وها قد أوشك على تحقيق إنجازٍ جديد، فمن رجل العربة إلى مشرفٍ على قسمه الجديد، لكن كل تلك الأحلام تبخرت بمجرد نقل المدير إلى مكانٍ آخر، وبذلك عاد الفتى الحالم إلى مواصلة عمله بكل همةٍ ونشاط، فالأمل سيظل ينير له طريق الحياة، ولا مكان للاستسلام أو الفشل. "لكل مجتهدٍ نصيب"، هذا ما قاله المدير العام، فقد كان يلاحظ اهتمام الهنداسي بعمله الجديد طيلة عاملين كاملين، ليصدر قراراً بتعيينه مشرفاً على قسمه.
المشكلة التي واجهته في منصبه الجديد أنه لم يجد من يرشده ويعلمه، فقد كان وحيداً في هذه المهمة، فلم ينتظر الآخرين ليمنحوه دروساً في هذا الشأن، إنما بادر في تعليم نفسه بنفسه، هذا الأمر تطلب البقاء في العمل لساعاتٍ طويلةٍ جداً تجاوزت أربعة عشرة ساعةً باليوم، كل ذلك من أجل الإلمام بالعمل والتمكن من القيام بالمهمة الجديدة بكل جدارة، وفي أقل من شهر تعلّم عبدالله العمل كاملاً.
المشروبات الطازجة
حينما افتتح "كارفور القرم" نُقل عبدالله إلى العمل هنالك في قسم المشروبات الطازجة، فأسندت إليه مهمة الإشراف على القسم من قبل مديره المغربي آنذاك، وكان يعتمد عليه كثيراً بالرغم من أنه لا يزال مشرفاً جديداً، ولم تتح له الفرصة بعد ليكتسب الكثير من الخبرة، إلا أن اهتمام عبدالله بالعمل، وإنجازه لكل ما يطلبه منه مديره، وحرصه الشديد على سير العمل بشكلٍ مميز، جعله مثار اهتمام مديره الذي كان يشعر بالراحة الشديدة لوجود الهنداسي معه في العمل.
بعد فترةٍ تمت ترقية مديره إلى منصبٍ أعلى، فظل وحيداً في قسمه، ووجد نفسه المسؤول الأول عن تسيير أمور العمل من دون سابق إنذار، كانت المهمة شاقةٌ للغاية، ذلك أن القسم كبيرٌ جداً، ومع ذلك قدّم عبدالله عطاءاتٍ رائعة ومشرفة، فاستمر لثلاثة أشهرٍ يدير القسم بمفرده، وسارت كل الأمور على أحسن على ما يرام، وبذلك أثبت قدرته العالية على الإدارة، وأنه أهلٌ لكل مهمةٍ تسند إليه، وهذا ما حدا بالمدير العام أن يصدر قراراً بتعينه مديراً على قسمٍ جديد بالنسبة له، وهو قسم الأسماك.
إدارة الأسماك
شعر الهنداسي بطعم النجاحات التي يقدمها، فلم يكن يرد بخلده يوماً أنه سيصبح مديراً في مؤسسةٍ كبيرة مثل "كارفور"، ومن كانت مهنته جمع العربات قبل خمس سنين، ها هو اليوم يدير قسماً حيوياً ومهماً. يبذل عبدالله اليوم كل طاقته من أجل النجاح في مهمته الحالية، ويحلم بمناصب أخرى، ويعمل بجهدٍ كبيرٍ من أجل الوصول إليها، فقسم الأسماك يشهد إدارةٍ جيدة ورائعة بشهادة العاملين فيه.
حينما سألته عن سير عمله أجاب: "الأمور هنا تجري مثلما نخطط لها، هذا القسم حيويٌ للغاية، وشعبية السمك في عمان كبيرة، والزبائن لا ينقطعون أبداً، وعليه فإننا نقع تحت مسؤولية توفير الأسماك بكميةٍ مناسبة، ومهامي لا تقتصر على متابعة العمل هنا في الداخل فقط، بل عليَّ متابعة الأمور في الخارج كذلك، من خلال التعامل مع الموردين والمسوقين. تواجهنا بعض المطبات، ولكنني أتغلب عليها بعلاقاتي الطيبة مع الجميع".
في نهاية الحوار قال الهنداسي: "أنا فخورٌ جداً بالشباب العماني العامل في مؤسستنا، إنهم يعملون بجدٍ واجتهاد، ولا يتوانون في تنفيذ أي مهمةٍ تسند إليهم، وبعد أن يكتسبوا الخبرة الكافية سنجدهم في مناصب علياء بإذن الله، فيما يخصني سأظل أواصل مشواري بما بدأت به، على أن الاستمرار في الحلم لن يقتصر على منصبٍ معين، ولا أزال أطمح إلى ما هو أعلى مما عليه أنا الآن بكثير، لكنني في الوقت ذاته فخورٌ بما حققته، وفي كارفور شبابٌ آخرون حققوا أيضاً ما استطعت أنا تحقيقه، وكلنا نطمح في رفعة وطننا أولا وأنفسنا ثانياً. كما لا يفوتني أن أنسب الفضل لأهله، وكل الفضل يعود إلى الإدارة الجيدة في "كارفور" التي منحت الشباب العماني فرصة إثبات النفس، ولم يخيب العمانيون ظن إدارتهم فيهم، فكل الحب والتحية للإدارة المتميزة، والتي لا تبخل علينا بشيء فدعمها متواصلٌ ومستمر.
منشور في جريدة الرؤية في السبت, 17 سبتمبر/أيلول 2011 03:36
No comments:
Post a Comment