رغم علاقتي السيئة بالاقتصاد إلا أني قرأت كلاما عام 1984م وعلق في ذهني من تلك اللحظة وهو سؤال وجهه هنري كيسنجر للأستاذ هيكل أواخر عام 1973 قال له فيه: ماذا ستفعلون بفوائض الأموال العربية؟ إن هذه الأموال لا يمكن أن تظل تحت تصرفكم في أي وقت لأنها كفيلة بأن تهز النظام النقدي كله في أي مرة تتحرك فيها حركة غير محسوبة، وإن هذه الكتلة من المال السائل تشبه قطعة ضخمة من الحجر انكسرت من قمة جبل وهي تهدد بالسقوط في أي لحظة فإذا سقطت وتدحرجت كانت خطرا على الناس!
لم يأت كلام كيسنجر اعتباطا فهو إضافة إلى موقعه السياسي كان مستشارا لبنك تشيز مانهاتن وكبير مستشاري أسرة روكفلر، إذ بعد هذا الكلام مباشرة بدأت الصيحة حول خطر الأموال العربية ونشرت مجلة ( الإيكونوميست ) إحصائية طريفة ولكنها حقيقية مؤداها أن العرب الآن في وضع يمكنهم من شراء مؤسسات الغرب الكبرى، ففوائض البترول العربي في 6 شهور تستطيع شراء كل أسهم شركة (آي بي أم ) وفي 4 شهور تستطيع شراء كل أسهم شركة(اكسون) للنفط وفي 16 يوما تستطيع شراء كل أسهم بنك أمريكا
بعد ذلك يبدو أن الغرب وعلى رأسه أمريكا طبعا اجتهدوا في البحث عن كيفية إستغلال هذه الأموال واستثمارها لصالحهم مما يؤدي إلى إضعاف قوة الأمة التي فتح الله عليها من خزائنه دون حساب، فقفزت إلى السطح فكرة تدوير أموال النفط بما يعني تنظيم حركتها واستيعابها تماما لصالح الغرب والأمرّ من ذلك لصالح إسرائيل التي تعلن الدول العربية رسميا مقاطعتها ومقاطعة التعامل معها سياسيا واقتصاديا، فكان هناك رأي في الكونجرس الأمريكي يخشى من هذه الفوائض ويقترح أن يكون تدويرها عن طريق البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي وليس عن طريق البنوك الأمريكية، لكن ديفيد روكفلر صاحب بنك تشيز مانهاتن طمأن أعضاء الكونجرس المترددين بأن البنوك الأمريكية مستعدة لفوائض أموال البترول ولديها الخطة لتدويرها، وكان الخوف من أن الأموال العربية في البنوك الأمريكية قد تصبح أداة ضغط على السياسة الأمريكية ( وهذا هو المنطق ) لكن رد ممثلي بنك تشيز مانهاتن أن العكس هو الصحيح فوجود هذه الأموال في أيدي البنوك الأمريكية يجعل السياسة الأمريكية أقوى في مواجهة العرب لأن هذه الأموال ستكون تحت إمرة قرار أمريكي
والموقف لا يحتاج الآن إلى ذكاء كبير أو إلى شرح طويل لتأكيد أن ما هو حاصل الآن هو ما توقعه وخطط له ممثلو تشيز مانهاتن، فالنفط العربي والقرار السياسي العربي والأوطان العربية صارت رهائن في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية وأصبح هذا المال أقرب إلى النقمة منه إلى النعمة، فأمريكا هي المستفيد الأول من وجود هذه الأموال هناك حيث حققت نسبة نمو لم يسبق لها مثيل وارتفاعا في سعر الدولار أمام عملات العالم الأخرى ثم الأهم من ذلك هو سيطرة القرار السياسي الأمريكي عن الساحة العربية خاصة الدول النفطية الغنية
ولقد استغلت أمريكا هذه الأموال في كل حروبها في المنطقة ابتداء من حرب تحرير الكويت إلى حرب ما سُمي بتحرير العراق ومرورا بحرب أفغانستان وباكستان وليبيا ولا يبدو أن الأمر سيتوقف عند ليبيا
تقول بعض التقديرات المنشورة إن الكلفة المالية للحرب ضد القذافي بلغت حوالي ملياري دولار بينما تحدثت مصادر غير رسمية عن قرابة 3 مليارات دولار تحملت منها بعض الدول الخليجية مليار دولار، ومن المنتظر أن تسترد الدول الغربية هذه المصاريف من خلال الأفضلية التي ستحصل عليها في الصفقات الخاصة بإعمار وتطوير ليبيا وكذلك من النفط الليبي حيث أعلن مصطفى عبد الجليل أن الأفضلية في إسناد هذه المشاريع وعقود النفط الليبي ستكون للدول التي ساعدت ليبيا في الإطاحة بنظام القذافي وهو بالتأكيد يقصد الدول الغربية ولا يقصد الدول الخليجية التي لم يكن لها أي مصلحة في الإطاحة بنظام القذافي إلا استجابة للمطالب الدولية، وكانت النتيجة أن بعض أعضاء المجلس الانتقالي من ثوار الناتو ينتقدون بعض الدول الخليجية علنا لتدخلها في الشأن الليبي الداخلي ولا يتجرؤون أن ينتقدوا التدخل الغربي الكامل في الشؤون الداخلية الليبية لدرجة أن يقول الفرنسي هنري ليفي"إن مصطفى عبد الجليل نكرة وهم الذين صنعوه ويجب عليه الآن أن يمشي"!
في مقالي هذا لا أتناول القذافي لا من قريب ولا من بعيد وهل هو كان سيئا أو جيدا، كما يحلو للبعض أن يتصور مقتطعا بعض الفقرات ويترك السياق العام للمقال، لكني أرى أنه من حق مواطني دول النفط العربية أن يتساءلوا ما هي الفائدة التي جنوها لقاء مشاركة أموالهم في الحروب الغربية ضد الأشقاء العرب والمسلمين في ظل أوضاعهم المالية الصعبة وهو سؤال بسيط ولكنه كبير، وإذا كانت بعض الدول الخليجية قد شاركت بمليار دولار في كلفة الإطاحة بالقذافي ألم يكن الأولى أن تصرف هذه الأموال لمواطني هذه الدول ولتحسين ظروفهم المعيشية والتعليمية والصحية وقد أصبحنا نشاهد مواطني هذه الدول يلجأون إلى التسول؟ ومن حق مواطني هذه الدول أن يتساءلوا إلى متى سيتم استغلال ثروات بلدانهم لصالح حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ والدور القادم سيكون على من؟ إن أصوات مواطني هذه الدول تذهب سدى وستستمر هكذا في ازدياد حتى ينتفخ البالون ثم ينفجر، لأن العمل على إطاحة النظام الفلاني والفلاني بحجة أنه نظام ديكتاتوري يطرح أسئلة عدة منها مثلا هل هذه الدول التي تنتقد الآخرين دولا ديمقراطية ولديها مجالس نيابية حقيقية وديمقراطية ؟
وما يحصل في الدول العربية الداعمة دائما بالمال لا يحصل مثله حتى في أمريكا فمجلس النواب الأميركي رفض تمويل العمليات العسكرية في ليبيا ومنع استعمال أموال الميزانية العامة لهذا الهدف التي طالب بها أوباما لتغطية نفقات الحرب وذلك حفاظا على الاقتصاد الأميركي الذي يعاني من أزمة خطيرة أدت إلى تراكم ديون داخلية وخارجية تقدر بـ 14 ترليون دولار، وهذا ما جعل الإدارة الأميركية تصر على الحكومة العراقية بدفع تعويضات حربها على العراق منذ عام 2003 والتي بلغت تكاليفها حوالي 4 ترليون دولار، ويتم اقتطاع هذه الأموال من بيع النفط العراقي هذا غير ما رافق صفقات النفط من سرقة واختلاس
لذا لم يكن الحل أمام أمريكا إلا الإستعانة بالحلفاء وبالأموال العربية لخوض الحرب بالنيابة عنها وتكاد تكون خسائر أمريكا في هذه الحرب لا شيء كما أشار إلى ذلك الرئيس أوباما وقال إن هذه الحرب كانت الأرخص ولم نفقد فيها حتى جنديا واحدا، كل ذلك لأن هناك من مات بالنيابة وهناك من دفع بالنيابة، وسيتضح يوما ما الرقم النهائي لاسقاط القذافي ومن قبله صدام حسين ومن سيأتي بعدهما، وستعلم الشعوب العربية كم دفعت من حسابها ومن قوتها اليومي في سبيل حروب ليس لها داع وليس لهم علاقة بها، ومؤخرا كشف ديبلوماسي روسي أن الناتو أنجز جميع الخطط العسكرية للإطاحة بالنظام السوري وفي مقدمتها الغارات التكتيكية وقائمة المواقع المستهدفة وأن الحلف في مرحلة البحث عن مصادر التمويل فقط، وبالتأكيد الذي سيدفع التكاليف معروف سلفا
منشور في جريدة الرؤية العمانية
No comments:
Post a Comment